سوري يضرم النار في نفسه في مدينة فرنسية.. لا اسم له؟
خبر هامشي في صحيفة فرنسية: «رجل يضرم النار في نفسه في شارع لازيناي، في مدينة بورجيه. يتدخل المارة، ثم رجال الإطفاء. يُنقل إلى مشفى، إصاباته خطيرة. في المكان، عثرت الشرطة على بنزين. الرجل من أصل سوري، وقد يكون سبب عمله (انتحاره) اليائس…».
يسمّي الخبرُ أعلاه كل الأشياء المتعلقة بالحادث، إلا اسم الرجل اليائس.
على الأقل كان يمكن إدراج اسمه الأول، إن كان الأمر لاعتبارات مهنية تستحق.
الرجل الذي أراد أن يكون موته معلناً وساطعاً انتهى إلى هذا الخبر المختصر جداً، وإلى نعوات مؤثرة من أصدقاء محبّين انصاعوا إلى رغبة ذويه بعدم إعلان حكايته، واختصارها إلى: «توفي إثر نوبة قلبية».
لا شك أنه كان حزيناً لضياع أحلام الثورة. وحيداً بلا أصدقاء، أو مقهى، أو بستان، أو تلك الأحياء المكتظة، التي ما إن ترفع يدك فيها حتى تجد ألف وجه صديق يرد التحية.
مثل كثيرين لم يسبق لهم التعرف إلى أحمد كردية، تأثرتُ لنعوات الأصدقاء، وتأسفتُ، مثلهم، على شبابه، كما بدا في صورة مرفقة، قبل أن يتصل بي أحد أقرب أصدقائه، ليروي جزءاً من حكايته، وتأثّره بقصة موته. قال لي إنه حائر وضميره يعذبه: هل ينصاع لأسطورة «الأزمة القلبية»، ويستقوي على رغبة شاب أراد إعلان احتجاجه. لقد كان موتُه على هذا النحو كلَّ حيلته، سلاحه الوحيد، ولا شك أنه رغبَ في أن يعرف العالم.
قال الصديق، تصوّر! لست أنا مَن استنكرَ إخفاء الحكاية، بل ابنتي (العشرينية)!
نعرف سلفاً أن البنت قضت نصف عشرينيّتها في فرنسا تقريباً، ولا شك أنها أرادت ألّا تُنسى الحكاية السورية. تعرف البنت، كما نعرف جميعاً أن قصة انتحار سوري لاجئ لا يمكن أن تكون شخصية تماماً، أن تعنيه وحده، أن تكون بعيدة عن حكاية السوريين الهاربين من المقتلة الأسدية.
يروح الصديق يروي، على الهاتف، نُتَفاً من سيرة أحمد مستو، ويبدو أنه هذا هو الاسم الشائع لأحمد كردية، يتحدث عن بستانه في دُمَّر (لصق دمشق)، الذي طالَ ما جَمَعَ أصدقاءه من مثقفين وفنانين، عن ولعه بالشعر والفن، دون أن يكون شاعراً أو فناناً، ثم عن انتمائه لـ «الجيش الحر» في منطقة النبك، في ريف دمشق، خروجه إلى لبنان، وبقائه لبعض الوقت في شاتيلا، قبل أن يهجّ نهائياً إلى فرنسا العام 2014.
وعلى ما يقول الصديق، الذي ظل على تواصل معه حتى وقت متأخر، إنه لم يتمكن من الاندماج، ولم يتعلم اللغة.
ولا شك أنه كان حزيناً لضياع أحلام الثورة. وحيداً بلا أصدقاء، أو مقهى، أو بستان، أو تلك الأحياء المكتظة، التي ما إن ترفع يدك فيها حتى تجد ألف وجه صديق يرد التحية.
تدخل على صفحته في فيسبوك، فترى أنه مشغولٌ في معظمها بطفليه؛ بنت في السابعة، وصبي في الثالثة. وهو يتابع بكاميرته خطواتهما، وقفزاتهما، ونداءاتهما العسل. فيما يجيب: «نعم بابا، يا عمري». ياااه، كل هذا الحنان، كل هذا الولع، كيف طاوعك قلبك أن تموت يا رجل!
لم تكن الأيام رحيمة بالسوريين، من لم يقتله سجن، أو قصف، أو بحر، أو برد على الحدود، أو زلزال، قتلتْه الأيام.
لكننا نعرف؛ لم تكن الأيام رحيمة بالسوريين، من لم يقتله سجن، أو قصف، أو بحر، أو برد على الحدود، أو زلزال، قتلتْه الأيام.
نعرف أن هناك من الضحايا النفسيين للحرب ما يصعب إحصاؤه، لأسباب مفهومة، ونعرف أن الأيام ما زال في جعبتها مزيد من القصص والمصائر المفجعة.
لكن هل هناك ما يعيب حقاً؟ ما يستحق أن يخفى أو يموّه؟
ليس في المقدرة على التكيّف مع أسوأ ما في حياتنا ما يستحق أن يسمى نجاحاً وتألقاً، وفي المقابل ما من عار إن لم يستطع المرء التآلف، إن عذّبتْه الحياةُ والتهجير، وما عايشه خلال العشرية السورية الدموية.
الخيبة، واليأس كله، هو في إخفاء الأسباب، في التحايل على الحكاية الحقيقية، في ألا تروى الواقعة كما وقعت، وهذه وحدها إن نجت ستكون منارة. لا بد أن تكون منارة.
لذلك، أضم صوتي لصوت البنت العشرينية، ابنة الصديق التي استنكرت أن تموّه حكاية أحمد بعبارة «أزمة قلبية». وأثق أن الأجيال التي ولدت هنا، أو ولدت على الطريق، لا يمكنها أن تنسى، لأن ما حدث أفظع من أن يُهمَل.
تكريماً لذكراه، لحلمه، واختياره، ليس علينا أن ننكر موته. على الأقل.