مؤتمر السلام في جدة: محاولة للفهم
على وقع الهجمات بالطائرات المُسيّرة بين روسيا وأوكرانيا جوا وبرا وبحرا، تتسارع الخطوات الدبلوماسية، في محاولة لإيجاد حد أدنى من التوافق، كي لا تتسع الحرب إلى مديات تصعب السيطرة عليها. وعلى الرغم من دخول دول عديدة وقيام مبادرات من هذا الطرف أو ذاك للدخول على خط الأزمة، لكن ما زال حصول اختراق سياسي ودبلوماسي في جبهة الحرب يبدو ضربا من الخيال، بل إن التعقيدات تتسع، والدليل على ذلك أن اتفاقية الحبوب ذهبت أدراج الرياح.
فعلى مدى يومين انعقدت في جدة في السعودية محادثات سلام بشأن الحرب الروسية الأوكرانية، قيل إنها محاولة للتوصل لاتفاق على مبادئ أساسية، يُرتكز عليها في البحث عن حل لإنهاء الحرب سلميا، وقد شارك فيها سياسيون وخبراء أمنيون من أكثر من ثلاثين دولة حول العالم، من بينها الولايات المتحدة والصين والهند والبرازيل والمكسيك. فما هي أبرز الملاحظات التحليلية عن هذا المؤتمر؟
يمكن القول بأن مؤتمر جدة هو تجمّع سياسي دبلوماسي، سعى لإقناع الدول المترددة، لاتخاذ موقف داعم للتوجهات الأمريكية والغربية بشأن الحرب الأوكرانية
أولا، إن (قمة السلام) وهي التسمية التي أُطلقت على هذا التجمّع، لا توحي بأي حال من الأحوال عن معنى وطبيعة هذه القمة. هي قمة دبلوماسية الهدف الرئيسي منها، إضعاف روسيا وعزلها والضغط عليها. وتوسيع التحالف الغربي ليضم الدول المترددة، التي تمسك العصا من الوسط مثل الهند وجنوب افريقيا والمكسيك والبرازيل والصين. فقد تفاجأت الولايات المتحدة بردود الفعل لدى دول افريقيا والشرق الأوسط وآسيا، حين رفضت تأييد الموقف الأمريكي، وبقيت على الحياد في الحرب الأوكرانية، كما أنها محاولة دبلوماسية لحشد الدعم السياسي لأوكرانيا، وإعطائها فرصة لإيصال رسالتها إلى الدول المترددة، لذلك انتهى المؤتمر من دون أن يؤدي إلى نتائج فعلية يمكن أن تقود إلى بدء عملية دبلوماسية سياسية، فهذا ليس محور وطبيعة الاستراتيجية التي تقف خلف هذه القمة، ولو عدنا إلى تصريحات المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي والبيت الأبيض، نجد هذا التصور واضحا في قوله، إن هذه ليست مفاوضات سلام، ولن تؤدي إلى حل النزاع في أوكرانيا، ولكن ربما يكون الأمر الإيجابي الوحيد في هذا التجمع، هو أنه يفتح على الأقل نقاشا وحوارا حول ما يجري في هذه الحرب.
ثانيا، إن الرابح الأول من هذه القمة هو المملكة العربية السعودية، لا الولايات المتحدة ولا أوكرانيا. فالمؤتمر هو جزء لا يتجزأ من الدبلوماسية السعودية الراهنة، وهي محاولة لإظهار دورها كدولة رائدة، تقود عمليات دبلوماسية ليست إقليمية فقط، بل دولية أيضا، إن كان ذلك في مسألة الصراع في السودان، أو بالنسبة لتطبيع العلاقات مع إيران، أو في مسألة المحادثات السعودية الأمريكية بشأن التطبيع بينها وبين إسرائيل. وإذا كانت واشنطن قد منحت صانع القرار السعودي فرصة لتعزيز موقفه كقوة إقليمية دولية صاعدة، فهي بلا شك تريد أن تلعب هذا الدور وهي تسعى له، وهذا يظهر واضحا من دورها الكبير اليوم. ولو قرأنا الموقف السعودي في ملف الحرب الأوكرانية، يبدو موقف المملكة حريصا جدا على الموازنة في علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب، والتنسيق الاستراتيجي والاقتصادي مع روسيا. أي أنها تمسك العصا من الوسط بين موسكو وكييف، ففي حين وجّهت الدعوة إلى الرئيس الأوكراني لحضور القمة العربية في الرياض في شهر مايو/ أيار المنصرم، وكانت مفاجأة للكثيرين، نجدها في الوقت نفسه، رفضت اتخاذ موقف سلبي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومضت تنسق معه إلى أقصى درجة في مسألة الطاقة، في حين أنها تعرضت لضغوط كبيرة من قبل الولايات المتحدة والغرب لعزل روسيا، وإيقاف التبادل التجاري وعدم التعامل والتنسيق معها. لكن ربما يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: إذا كان التحليل يقول إن السعودية تمسك العصا من الوسط، في حين هي من بادرت لعقد هذا المؤتمر لحشد التأييد لأوكرانيا، وإنها أحجمت عن تقديم دعوة لروسيا لحضور المؤتمر، وإن هناك حالة استياء روسي من عقده وهم يراقبونه بحذر، ألا يعني ذلك بأن كفة الرياض قد مالت إلى أوكرانيا على حساب روسيا؟ الجواب لا.. ليس كذلك. وهنا لا بد من التذكير بأن السعودية قد تبرعت بمئات الملايين من الدولارات إلى أوكرانيا، لكنها في الوقت نفسه رفضت الانصياع للضغوطات الأمريكية بإيقاف التنسيق مع روسيا بالنسبة للطاقة، ويقينا أن الطاقة هي أهم بكثير من هذا المؤتمر، فلا نتائج فيه بينما كانت نتائج التنسيق في الطاقة كبيرة. صحيح أن المؤتمر عمل سياسي ودبلوماسي آذى روسيا، وأن الرياض لم توجه دعوة لها لحضور المؤتمر، كما أن الهدف الأساسي منه تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي لخريطة الطريق بالنسبة لإنهاء الحرب في أوكرانيا، لكن علينا أيضا أن نرى الاشياء بمنظار العلاقة السعودية الروسية، وعدسة العلاقة السعودية الأمريكية. فيبدو اليوم أن هناك نوعا من الحوار الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن، والسعودية تحاور وتناور من أجل الحصول على بعض التنازلات من القيادة الامريكية، خاصة بالنسبة للبرنامج النووي السلمي، وبعض الأسلحة التي تتمنّع واشنطن من تزويد الرياض بها. وعليه فإن هذا المؤتمر يمكن أن يُنظر اليه ليس فقط من خلال أن السعودية تمسك العصا من الوسط، ولكن من خلال العلاقة الجديدة بين الرياض وواشنطن. ويمكن هذا هو ما يفسر رغبة المملكة في الدعوة لهذا المؤتمر وعدم دعوة روسيا.
ثالثا، أما المفاجأة الكبرى في هذا المؤتمر فقد كانت قرار الصين بالمشاركة فيه. فهذا المؤتمر ليس هو الاول الذي يتعلق بمناقشة الحرب في أوكرانيا. كان المؤتمر الاول قد عُقد في كوبنهاغن في نهاية شهر يونيو/حزيران الماضي. آنذاك رفضت الصين المشاركة فيه، لكن يبدو أن مشاركتها في مؤتمر جدة جاءت بعد إقناع الرياض لها بضرورة المشاركة. وهذا يدل على أن بكين لديها أهداف تحاول الوصول إليها، منها تنمية العلاقات الصينية السعودية، وإظهار أن الصين دولة تمسك العصا من الوسط أيضا.
أخيرا، هذا المؤتمر هو عمل إعلامي وسياسي ودبلوماسي لن يُفعّل ميدانيا أو استراتيجيا، لأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا لم تأت لحد اللحظة من حلف شمال الاطلسي. حتى الان يرفض حلف الناتو إعطاء أوكرانيا الضمانات الأمنية والعسكرية، لأن فعل ذلك يعني الدخول في مواجهة مع روسيا، دول مجموعة السبع هي التي قدمت هذا الضمانات الأمنية، لذلك من الخطأ الظن أن مؤتمر جدة كان قادرا على تقديم الضمانات الأمنية، فهذه الدول لا تستطيع القيام بذلك لأنها لا تملك القدرة لوحدها. لذا يمكن القول بأن المؤتمر هو تجمّع سياسي دبلوماسي، سعى لإقناع الدول المترددة، إلى اتخاذ موقف داعم للتوجهات الامريكية والغربية بشأن الحرب الأوكرانية، وهذا هو الهدف الاستراتيجي الأمريكي ـ الغربي من عقد هذا المؤتمر.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية