طفلة سورية تتساءل: «عمو ليش قاطعين الخبز عنا»؟ وأم فلسطينية تعالج حزنها بشفاء الآخرين!
بيدر ميديا.."
طفلة سورية تتساءل: «عمو ليش قاطعين الخبز عنا»؟ وأم فلسطينية تعالج حزنها بشفاء الآخرين!
لو تأملت عينيها لتدفقت من راحتيك قصيدة بدر شاكر السياب. ولتجلت أمامك الشلالات لتضيء غابتي النخيل ساعة السحر. ولتخلت الأضواء عن رقصاتها المسائية، لتنشغل بها وحدها. لو تأملت عينيها لاستفاقت رعشات البكاء وهمست في أذنها الصغيرة: “أتعلمين أي حزن يبعث المطر”؟
إنها طفلة لا يتعدى عمرها السبع سنوات. وجه من نور. أو دمعة مكثفة مضيئة. عيناها الواسعتان مشبعتان بلون الزيتون وأنفها الصغير منمنم مثل حبة فستق. أما فمها المرسوم فتحسبه كرزة ندية شربت الفجر فتلألأت به. إن دققت في تفاصيلها يخيل إليك أنها “باربي” في أيام طفولتها. وقد فرت من فيلمها الشهير “باربي”، وهو يعرض في إحدى الدور العالمية لتأنس فتعيش تجربة الحزن في عالمنا البشري. فنحن لا نمتلك إنسانيتنا إلا بعبور كل ضفاف الحزن. إنها أجمل الباربيات وأرقهن على الإطلاق.
وقفت وأصدقاؤها أمام مراسل قناة “الجزيرة” لتسأله وشعرها الذهبي يغازل بشرتها المطعمة بأشعة الشمس: “عمو ليش قطعتوا الخبز عنا”؟
سؤال وجودي كبير بحجم الكون، وأكبر بكثير من سنها، موجع جداً. ولا إجابة صادقة له سوى الصمت والتفكير الجدي بمعنى وجودنا واستمرار الحياة. إنها طفلة الشمس، تعيش في مخيم بائس في الشمال السوري. وتواجه تحديات لا تفهمها.
فهي كانت جائعة. جائعة جداً. ولا تفهم سبب جوعها. لماذا نقطع الخبز عن الأطفال؟!
هي وآلاف الأطفال في بلادنا يعيشون في ظروف صعبة وغير مستقرة، بسبب قلة توفر المياه والطعام والرعاية الصحية. هؤلاء الأطفال لا ذنب لهم سوى أنهم أبناء الحروب والتشرد والجوع. أبناء الظلم والقسوة.
“يا عمو ليش قاطعين الخبز عنا؟” تردد السؤال مرة أخرى، وهي تشد بعضلات وجهها، وكأنها تبحث عن قوة تمنحها شيئاً من التوازن. يرد عليها المراسل قائلاً: يا عمو مو إحنا يلي قاطعين الخبز هاي الأمم المتحدة. وكالات الأمم المتحدة يلي كانت عم تعطي خبز هي يللي قاطعة الخبز.
وكم كان مخطئاً ذلك المراسل في رده. نعم، إن ذلك الرد لا يليق بالحقيقة، ولا يقرب لها لا من قريب ولا من بعيد، لأننا جميعنا، وأقصد جميعنا، وذلك يشمل كل كائن يتنفس فوق الأرض. كلنا متهمون بالتقصير. فكل كائن يأكل رغيفاً أو حتى لقمة ولا يتقاسمها مع هؤلاء الأطفال، متهم بتجويعهم وتعذيبهم. كلنا متهمون. كلنا مجرمون!
يا صغيرتي، كم نشعر بالخجل والعار والتخاذل أمام سؤالك البريء. سؤال قد عرّى أنانيتنا، وكشف خبثنا ولؤمنا في التغاضي عن أوجاع الآخرين. سؤال يزيح الستارة عن الهالات، التي نرسمها فوق رؤوسنا. وعن مسؤوليات نتجاهلها لنحرر أنفسنا من الذنوب. لسنا أبرياء أمام دموع الأطفال وجوعهم.
سؤالك يا صغيرة يجر خلفه سؤالاً آخر: أين تكمن إنسانيتنا حين تحضر عينيك؟
يا الله يا درويش، كم كانت مرتبة وصفاتك وعالية، وكم كنت نبيلاً حين كتبت:
وأنت تعد فطورك فكر بغيرك
لا تنس قوت الحمام
وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك
لا تنس شعب الخيام
لو كل فرد اقتسم لقمته مع جائع، هل كان ليبقى في الكون جائع؟
الموت يشكلنا من جديد!
ومن سوريا إلى فلسطين. حكاية ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي وتناقلها رواد الـ”سوشيال ميديا”، ربما لأنها تعلمنا كيفية تحويل الأوجاع إلى أفراح. والموت إلى حياة واستمرارية وآمال.
إنها قصة أم فلسطينية تدعى مكرم عوض، خسرت ابنها بسبب خطأ طبي. لقد دخل صغيرها المستشفى للعلاج بعد إصابته بالتهاب رئوي، لكنه رحل من دنياها بسبب غلطة. هكذا قررت مكرم أن تتخطى آلامها بمساعدة الآخرين، وأن تغلب حزنها بمنح الفرح. فبدل أن تستسلم للحزن العميق والصدمة والغضب واحتضان الذكريات والشعور بالفراغ، قررت أن تدرس التمريض في الجامعة الإسلامية في غزة كي تساعد المرضى في رحلتهم مع الوجع. أرادت أن لا يشعر أهاليهم بنفس الفاجعة التي آلمتها. هكذا استحال ألمها في فقدان ابنها إلى فرحة شفاء لكثيرين أشرفت على علاجهم. إنه فن تشكيل الحياة من ركام الآلام. أو فن تحويل الألم إلى عطاء. ربما مهنة التمريض كانت بمثابة وسيلة للتعبيرعن ذاتها والانفتاح على مشاعرها، مما يمكنها من التمسك بالحياة. تقول: “أنا لما توفى عمر بالخطأ الطبي، صار عندي عزيمة وإصرار أني ما أخلي الناس يوقعوا بنفس المشكلة اللي وقعت فيها. لأن حسيت بمرارة إنه الواحد يفقد ابنه أمام عينيه. من لحظتها أنا صار عندي جرح داخلي.. أنا بديش أخلي الناس تاخد كأس المر اللي اتجرعته.”
إنها فعلاً ملاك رحمة. لقد خدرت فجيعة فؤادها لتعنى براحة المرضى ولتدعمهم في أوقات الضعف والألم. إن التخفيف من معاناة الآخرين وتقديم الرعاية بروح الرحمة والتفاني هو أسمى درجات العطاء، التي تولّد السلام والفرح. فيشعر المرء بالرضا ويساهم في تعزيز الإيجابية والأمل في الحياة. إن “الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.”