مفهوم الهوية من أكثر المفاهيم التباسا في الوقت الراهن. يعود مرد هذا الالتباس إلى وجود هويات تفرض نفسها على غيرها من الهويات، أو تعرُّض هويات أخرى إلى الإقصاء، أو كونها مهددة بالزوال لعدم توفرها على المقومات التي تمدها بأسباب الحياة. ويكمن هذا الالتباس في عدم التمييز بين أنواع الهويات وعلاقات بعضها ببعض وحصول التداخل بينها في الزمن، فيتم لدى البعض وهم أن له هوية خالصة لا علاقة لها بغيرها، فيسعى إلى الدفاع عنها ليس فقط بقصد فرضها، ولكن بالعمل على محو غيرها من الهويات. ومن هنا يبدأ التنازع الهوياتي والصراع.
يكمن جزء هام من التباس الهوية ليس فقط في المقاصد الكامنة أو الظاهرة، ولكن في طبيعتها أيضا. فهي متعددة، ومتنوعة. فمنها ما هو خاص بشخص، أو عشيرة أو قبيلة. ومنها ما هو عام بشعب أو وطن، أو أمة أو حضارة. وتبعا لذلك يمكننا التمييز بين هويات خاصة، وأخرى عامة. إن الهويات الخاصة عينية، أي أنها خاصة بكينونات محددة في الزمن، وهي ترتبط بها ما دامت قابلة للاستمرار، وليست مهددة بالزوال. فقد تكون لشخص ما هي هويتان «وطنيتان» معا. وقد تسقط عنه إحداهما لسبب من الأسباب، أو يسقطها الفرد تلقائيا، فيدعي أنه فرنسي مثلا، وليس مغربيا. وهذه الهوية تنتهي بالوفاة. كما أن هوية أشخاص بانتمائهم إلى عشيرة أو قبيلة تقتصر عليهم دون غيرهم، فينتسبون إليها إلى جانب انتمائهم إلى هوية أوسع تضم هويات جزئية كثيرة تبدأ من الوطن إلى الأمة. ويمكننا تعداد الهويات في تنوعها وتعددها بالنسبة للأفراد والجماعات.
إن هويتي الخاصة كدكتور مثلا تنتهي بحصولي على التقاعد. لكن أعمالي إذا كانت لها مقومات البقاء وإحداث الأثر في المجتمع بعد ذلك قد تجعلها ذات إسهام في الثقافة التي أنتمي إليها، فتصبح هويتي عامة لا خاصة. فالهوية العامة متعالية على الزمن، وعلى المكان لأنها تجعلني منتميا إلى فئة أكاديمية في زمن ما، ولكنها قد تضعني في مصاف مختلف الهويات الشخصية التي ساهمت في تكوين تلك الثقافة. لذلك يمكننا الحديث عن البصري مثلا واليوسي بأنهما شخصيتان ثقافيتان تنتميان إلى ثقافة محددة، ويمكن لأثرهما أن يكون ذا بعد إنساني. بينما نجد شخصيات كثيرة عاشت في زمن الرجلين انتهت هوياتها بزوالها. وما قلناه عن الشخص، يمكن تعميمه على عشيرة أو قبيلة تفرق أعضاؤها لطلب العيش في فضاءات أخرى، أو تعرضت للزوال بسبب وباء أو حرب مدمرة، فلم يبق من آثارها سوى خبر في كتب التاريخ.  يمكن إطلاق هذه الصفة أيضا على مكان ما. فبغداد العصر العباسي الذهبي ليست بغداد ما بعد التدخل الأمريكي، كما أن فرنسا الثورة الفرنسية ليست فرنسا ساركوزي.
إن الهوية العامة هي الهوية الثقافية التاريخية الخاصة بحضارة ما، والتي ينتمي إليها كل من ساهم فيها في زمن ما. وهي تتعالى على الهويات الخاصة وتهيمن عليها سواء كانت عرقية أو لغوية خاصة بعشيرة أو قبيلة. ولا يمكن للهوية الخاصة أن توازي نفسها أمام تلك الهوية أو تدعي أنها ند لها، أو تطالب بأنه ينبغي أن تتوفر لها المكانة التي تحظى بها الهوية الثقافية التاريخية. يعود السبب في ذلك إلى أن الهوية الخاصة محدودة وضيقة المجال والأثر في حياة الناس. أما العامة فهي ملتقى مساهمات جماعية لهويات خاصة متعددة ومستمرة في الزمن. فلا مجال للمقارنة. كما أن العامة عرفت تطورا بالنظر إلى غيرها: فهي ذات لغة كتابية، وتراث فكري وثقافي مكتوب، ومساهمة في الحضارة الإنسانية.
يمكن أن نضرب مثالا من الهوية الثقافية التاريخية من حضارات منتهية في الزمان مثل حضارة بلاد الرافدين، ومصر الفرعونية وحضارة المايا وغيرها من الحضارات الزائلة. فالعراق القديم ليس العراق الحديث. فهل يمكن للمصري الآن ادعاء انتماء هويته إلى حضارة مصر الفرعونية؟ إن تلك الحضارة صارت إرثا إنسانيا عاما، ولكن تأثيرها في الحياة المعاصرة محدود جدا. ما قلناه عن مصر يمكن تعميمه على كل الهويات المعاصرة في خصوصيتها الخاصة بالأصل القبلي القديم، أو الهوية الوطنية الحديثة، وعموميتها في علاقتها بهويتها الثقافية التاريخية.
تتحدد الهوية الثقافية الغربية لما نسميه الغرب اليوم، وهو يضم إثنيات ولغات، وتاريخا طويلا من الحروب والصراعات، فيما يعلن عنه كل الغربيين، بغض النظر في جنسياتهم، في التراث اليوناني ـ الروماني، واليهودية ـ المسيحية. وإلى هذه الهوية الثقافية التاريخية ينتمون وجدانيا وثقافيا، وبها يحسون أنهم يتميزون عن غيرهم من شعوب الأرض. فرغم ادعاء كون حضارتهم الحديثة ديكارتية المنزع ما يزال التأثير الأرسطي ماثلا في تفكيرهم، ونمط رؤيتهم للأشياء. ورغم ادعائهم العلمانية ما زال التراث اليهودي ـ المسيحي قوام حياتهم واحتفالاتهم وهو ما يحدد طريقة تعاملهم مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى المخالفة لهم. قد يدافع الفرنسي عن لغته، وثقافته الخاصة، ولكنه في الوقت نفسه يرى انتماءه الحقيقي إلى الهوية الثقافية التاريخية. فهي مرجعه الأساس، وهي قاعدة رؤيته للعالم، وممارسة الصراع فيه. قد تحصل صراعات وحروب داخل الغرب، ولكنها تظل في نطاق حضارة يسمونها الحضارة الغربية. ويمكننا قول الشيء نفسه عن الهوية الثقافية الغربية الآسيوية، من الهند إلى اليابان. إن مقوماتها عامة ومشتركة، وهي ما تزال ماثلة في السلوك والمعاملات، رغم ما تفاعلت به هذه الهوية مع الهوية الثقافية التاريخية المهيمنة حاليا وهي الغربية. قد نجد اختلافات في الهويات الخاصة للآسيويين لكن انتماءهم العام يظل مميزا لحضارة وتاريخ.
أما الهوية الثقافية التاريخية التي نجدها، في العالم المعاصر، إلى جانب الهويتين السابقتين فهي الهوية العربية ـ الإسلامية التي تشترك فيها شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لقد ساهمت في هذه الهوية شعوب (عرب، فرس، ترك، كرد، بربر…)، كما ساهم فيها المسيحيون واليهود، ومن هويات خاصة متعددة عبر أربعة عشر قرنا. قد نجد اختلافات في الهويات الخاصة للأقوام الذين ساهموا في هذه الهوية سواء على مستوى اللغة، أو الطائفة أو الإثنية. إن عمومية هذه الهوية الثقافية التاريخية تبرز في أنها ليست عرقية ولا إثنية. إنها ذات خلفية ثقافية وحضارية. تعرضت هذه الهوية في تاريخها إلى هزات وصراعات وحروب عملت على إزالتها ومحوها من الوجود، ويكفي الإشارة إلى المغول والاستعمار القديم والحديث، والاستعمار الجديد، ولكنها ما تزال قائمة، لأنها متعالية على الزمان.
كل هذه الهويات الثقافية التاريخية الثلاث التي توقفنا عليها هي السائدة حاليا في عالمنا المعاصر. ويبدو من الوقوف عليها أننا لم نشر إلى هويات ثقافية تاريخية أخرى في أفريقيا وأمريكا الجنوبية. لا أحد ينكر ما عرفته أفريقيا وأمريكا في تاريخها، وما عرفته من حضارات. لكن ظروفها التاريخية والجغرافية لم تتح لها الفرصة للتفاعل مع غيرها من الأمم والشعوب، ولا أن تكون فاعلة في التاريخ، ومؤثرة في غيرها من الحضارات القديمة. إن انعزالها، واكتفاءها بنمط حياة تقيده شروط البيئة الخاصة جعلها بمنأى عن التطور والخروج من دائرة حضارية إلى أخرى.
ما موقع هويتنا الثقافية التاريخية في زماننا هذا؟ هذا هو السؤال الحقيقي. أما غيره فأوهام وأحلام.
*كاتب من المغرب