“جورج اورويل” يكتب عن ( تولستوي و شكسبير )
كل الادباء الروس منذ نهاية القرن الثامن عشر وصعودا , كانوا يؤكدون دائما , ان شكسبير هو واحد من أعاظم الكتّاب المسرحيين في العالم , بل ان بوشكين نفسه أسماه ( أبونا شكسبير ) , ما عدا تولستوي , فانه لم يتقبل شكسبير بتاتا , وكتب ضده مقالة مشهورة جدا بعنوان ( عن شكسبير والدراما ) عام 1903 , ونشرتها جريدة ( روسكويه سلوفه ) (الكلمة الروسية ) في حينها , ثم صدرت هذه المقالة عام 1907 في كتيب خاص , ودخلت بعدئذ طبعا ضمن المؤلفات الكاملة لتولستوي ( في الجزء 35 / من صفحة رقم 216 الى صفحة رقم 272 ), اي ان هذه المقالة المهمة في تراث تولستوي تقع في ( 56 ) صفحة باكملها في المؤلفات الكاملة له.
نشر الكاتب البريطاني الكبير جورج اورويل ( 1903 – 1950) مقالة خاصة حول رأي تولستوي هذا وبعنوان ( تولستوي و شكسبير ) , والتي جاءت اولا في حديث له بثته اذاعة البي بي سي الشهيرة عام 1941 ضمن برامجها الثقافية الموجهة الى الخارج آنذاك , ثم نشرته هيئة الاذاعة البريطانية فيما بعد , واعيد نشر المقالة تلك في كتاب صدر عام 1968ضم مجموعة من مقالات اورويل الصحفية والادبية , اما الترجمة الروسية لهذه المقالة , فقد صدرت عام 1989 ليس الا في كتاب نشرته دار نشر ( بروغريس ) ( التقدم ) ضم روايته المشهورة ذات التسمية الغريبة والمتميزة فعلا وهي (1984) ومقالات مختلفة اخرى له.
يشير اورويل في مقالته تلك , الى ان تولستوي قد انتقد بشدة شكسبير ولم يعتبره ( كاتبا عظيما ) كما يصفوه في العالم , وعلى الرغم من ان مقالة تولستوي أثارت ردود فعل كبيرة , الا انه لم يجرأ او يتجاسر أحد على الرد عليها, ويضيف اورويل رأسا , الى انه لا يمكن الرد له في مقالته هذه على كل ما جاء عند تولستوي من آراء حول شكسبير , لانها مقالة فكرية واسعة جدا ومتشعبة جدا .
يتحدث اورويل بعدئذ عن المقالة بتفصيل وجيز ويقول , انه توجد فيها بشكل عام آراء صحيحة , و هناك جوانب ذاتية جدا ترتبط ب (الذوق الخاص) لتولستوي نفسه , وبالتالي لا يمكن طبعا مناقشتها لانها ترتبط بذوق تولستوي الخاص به , وتوجد ايضا مقاطع يتناقض تولستوي نفسه مع نفسه فيها , وهناك جوانب لم يفهمها او يستوعبها الكاتب الروسي بشكل صحيح ودقيق باللغة الانكليزية لشكسبير لانه لم يستطع التوغل في اعماقها وتفهم ظلال كلماتها كما يجب باعتبارها لغة اجنبية بالنسبة له , ويشير اورويل ايضا الى انه ربما يوجد جانب آخر في مقالة تولستوي يرتبط بما يسميه الكاتب الانكليزي بشعور تولستوي تجاه شكسبير بــ ( النفور او شكل من اشكال الكراهية ) , وذلك نتيجة الغيرة الكامنة في اعماقه من الشهرة الكبيرة التي تحيط باسم شكسبير , وان تولستوي اراد ان ( ينزع منه مجده) كما يعبّر اورويل .
وهذا بالطبع رأي ذاتي خاص جدا بارويل نفسه , و يمكن الاتفاق او عدم الاتفاق معه , ولكن مع ذلك يمكن الاستماع اليه ومناقشته بشأنه , خصوصا وانه يذّكرنا بشكل او بآخر برأي زوجة تولستوي (صوفيا اندرييفنا ) الذي قالته له عند خصامها معه مرة حول حقوق التأليف , في انه ( يبحث في تصرفاته عن مجده الشخصي !), وغالبا ما يكون الرأي , الذي يطلقه الانسان اثناء حالات الغضب دقيقا .
لكن اورويل يذكر بعد كل هذا العرض الوجيز لاراء تولستوي , ان هذه المقالةمنحتنا فائدة كبيرة , اذ انها (صححت !) ذلك (الاعجاب الاعمى !) بشكسبير , الذي كان سائدا في روسيا وفي العالم ايضا , بغض النظر عن كل شئ , اي عندما أصبح (الاعجاب الاعمى ) بشكسبير مثل ( المودة ) ليس الا .
يحاول اورويل لاحقا مناقشة تولستوي في بعض افكاره , التي جاءت في تلك المقالة , اذ ان تولستوي قد أشار هناك الى الكثير من الجوانب السلبية عند شكسبير , منها ( ان شكسبير لا يمتلك فلسفته الخاصة به . .ولا افكاره . . ولا توجد لديه اهتمامات بالمشاكل الاجتماعية او الدينية . . ولم يعكس طبيعية الشخوص ولا نموذجية الاحداث والاوضاع . . وانه وضع مسرحياته دون ان يهتم بالحقيقة . . و أقحم فيها احداثا مفتعلة . . وأجبر أبطاله ان يتكلموا بلغة غير طبيعية , لغة لا يتكلم الناس بها عادة . . وان مسرحياته مقتبسة , وملصوقة بها مونولوجات مطولة واساطير ونقاشات ونكات . . وان شكسبير لم يفكر كيف يجب ان تسير الاحداث في تلك المسرحيات ) , بل ان تولستوي وصل الى استنتاج خطير ( ان صح التعبير ) , اذ اتهم شكسبير في مقالته تلك , بانه ( ليس مفكرا ).
لقد عرض اورويل كل آراء تولستوي هذه بهدوء وموضوعية واتزان , وقد حاول ان يفنّد بعض تلك الآراء , وان يثبت مثلا , ان شكسبير ( كاتب أخلاقي ) , وانه شغل موقعه العالمي بجدارة واستحقاق , واستشهد بآراء وأقوال بعض مشاهير الادب والفكر في العالم , ولا يمكن هنا طبعا عرض كل ذلك حتى بايجاز , ولكن من المؤكد ان آراء تولستوي حول شكسبير وجواب اورويل بشأنها , هو موضوع يستحق بلا شك الاطلاع الكامل عليه وتأمله بامعان .
بقلم الكاتب
أ.د ضياء نافع