قراءة في كتاب (الوطن.. ذاكرة لا تغفو) للباحث أحمد الناجي
نبيل عبد الأمير الربيعي
وصلتني نسخة من كتاب الأخ والصديق أحمد الناجي الموسوم (الوطن.. ذاكرة لا تغفو) وهو عبارة عن قراءة جميلة ودقيقة ورائعة للباحث الناجي لكتاب السيد عدنان الحسيني (مائة عام من ذاكرة وطن) الجزء الأول. الكتاب عبارة عن كراس من الحجم المتوسط، وقد تضمن (132) صفحة، بعنوانات متعددة، قد سلط الناجي الضوء فيها على الفتاوى التحريمية وعلاقة المرجعية بالسياسة لحقبة القرن العشرين، ومن تلك العنوانات:
– فتوى تحريم التنباك.. الدين أداة لتوجيه الرأي العام.
– الجهاد ذد الاحتلال البريطاني.
– الجمعيات السياسية والدينية في العراق.
– ثورة العشرين.
– التدافع السياسي يفضي إلى تحييد دور المرجعية الدينية.
– المرجعية الدينية تعود إلى الخوض في غمار السياسة.
– فتاوى التكفير.. اهدار دماء الخصوم السياسيين.
– انقلاب 8 شباط الدموي.. ثمرة مُرة لفتاوى التكفير.
– عودة البعث للسلطة وتجليات زيف تحالفه مع المرجعية الدينية.
ما اعرفه عن مميزات حوزة النجف عن غيرها من الحوزات الدينية هو نهجها العلمي الاصيل وابتعادها عن الفعل السياسي المباشر، حيث تعتمد على نظرية الأمة الحاكمة وليس المرجعية الحاكمة، فمن تقاليد النجف المعروفة لا يجوز لطالب العلم أن ينتمي لأي حزب سياسي، ولا يجوز له أن يحمل أي افكار فئوية أو قومية أو عنصرية، من أجل تحصينها لكي لا تنقل الصراعات إلى داخل اروقة الحوزة وتؤثر بذلك على الأجواء العلمية في النجف.
لكن بعد اطلاعي على كتاب الصديق العزيز السيد عدنان الحسيني (مائة عام من ذاكرة وطن) بثلاثة أجزاء، الصادر عن مؤسسة الصادق في بابل عام 2022، ذات الطباعة الراقية والاخراج الجميل، وجدته مثابراً بتسليط الضوء على مجريات الأمور الحياتية والسياسية والاجتماعية والدينية في العراق، بتقديم دلائل تاريخية عن العلاقة بين السلطة السياسية والمرجعية، فضلاً عن استخدام الدين في الشأن السياسي بين أواصر المدنس والمقدس، لكن كتاب الباحث أحمد الناجي، وهو يسلط الضوء على الجزء الأول من كتاب السيد الحسيني، بقراءة جديرة بالاهتمام، حيث وضع النقاط على الحروف، مشيداً بالكتاب، وواضعاً ملاحظاته الدقيقة عن الاخفاقات التي وقع بها المؤلف، علماً أن كتاب الأستاذ الناجي فيه بعض الأخطاء المطبعية والإملائية البسيطة، إلا أن الأستاذ الناجي قد اجمل دراسته هذه بحصرها في الاجابة عن خمسة أسئلة (من؟ ماذا؟ متى؟ أين؟ لماذا؟) التي تزداد مهام الباحث بالاستقراء لجوانح التدوين التاريخي، والتوسع في مضان البحث عبر الحفريات التنقيبية التي تغور في أعماق الأزمنة، وقد وجد الناجي المؤلف عدنان الحسيني قد أدرك هذا الجانب، لكن الناجي أكد على أن المؤلف (راح يغالي بلا مبرر، حينما يشير إلى مصادره في المتن والهامش، ربما تحسباً من الظنون التي تنطلق من مصالح ذاتوية تلغي الآخر بتجسيد صرامة المعتقد الديني وهي بعيدة كل البعد عن الدين والقداسة) ص15. فضلاً عن أن المؤلف الحسيني قد عرض في كتابه حيثيات موقف المرجعية الدينية ومواقفهم السياسية على عدة عقود دون السكون جانباً والابتعاد عن التدخل السياسي.
وقد قدم السيد الحسيني في كتابه نبذة عن كافة المراجع الدينية ممن سبقوا الشيرازي وكان لهم دورٌ بارز في التصدي للزعامة الشيعية، كما حرص المؤلف على تقديم لمحة وافية حول مجمل أحداث ثورة العشرين وفتاوى بعض المراجع الدينية وابرز تلك الفتاوى فتوى الشيخ محمد مهدي الخالصي، حيث بدأ باستعراض مجموعة من الآراء التي تناولت أسباب الثورة وتحليلها. كما استعرض المؤلف الحسيني تدهور العلاقة بين الزعيم قاسم والشيوعيين، واطال النظر نحو المرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم الذي قد بارك لثورة تموز بتاريخ 27 تموز 1958، لكن العلاقة بين الزعيم قاسم ومرجعية الحكيم قد تباينت بين الشد والجذب إلى أن انتهت عند حدود القطيعة ومباركتها لانقلاب 8 شباط 1963، واهدار دماء الشيوعيين بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي، وكان للحكيم حسب ما صرح به عبد الرزاق محيي الدين الدور في اسقاط حكومة الزعيم قاسم ومجيء البعث للسلطة (الاعمال الكاملة لعبد الرزاق محيي الدين ج4، ص376). فانتشرت اعراس القتل الجماعي، ويصفها الاستاذ الناجي في ص88 (أصبحت تلاوين تلك الأيام مصبوغة بلون الدم).
فقد سلط السيد الحسيني في كتابه ج1 الضوء بعناية فائقة على بعض الحقائق في تلك الحقبة الزمنية، ومن المراجع الدينية الشيعية والسنية التي استحصل منها على فتاوى جديدة بقتل الشيوعيين بعد حركة حسن سريع 3 تموز 1963 كلٍ من: السيد محسن الحكيم والشيخ محمد مهدي الخالصي والسيد نجم الدين الواعظ والشيخ أمجد الزهاوي والشيخ قاسم القيسي (راجع ص94/95 من كتاب الوطن.. ذاكرة لا تغفو- احمد الناجي). لكن الراوي لم يجرِ الأخذ بها وتنفيذ احكام القتل الكارثية آنذاك بفضل تشاور عبد الغني الراوي مع طه جابر العلواني إمام جامع حسينية الباجه جي بمحلة أبو أقلام في الكرادة الشرقية، الذي اسدى نصيحة إليه، وأشار عليه أن لا يذهب لتنفيذها (انظر: د. رشيد اخيون، فتاوى قتل آلاف السجناء تموز 1963، مقال بجريدة الزمان اللندنية، 4 تموز 2021).
مؤلف الكتاب اجده قد اهتم بكل معلومة صغيرة أو كبيرة وفي تفصيلات الحوادث، حتى أنه سلط الضوء على فتوى التكفير الكاذبة الصادرة من قبل السيد الحكيم تفيد بحرمة مقاتلة الأكراد، كان أول من روج لها ونشر خبراً عنها دون أن تورد نصاً لها هي جريدة التآخي، التي كانت تصدر في العاصمة بغداد، بعددها الصادر بتاريخ 17 حزيران 1965، ويؤكد على أن الحقيقة ما نشر حينها كان تزويراً بقصدية مغرضة. مع العلم أن السيد مهدي الحكيم قد وزع عن طريق وكلاء المرجعية فتوى لا تبيح لأحد قتال الحركة الكردية (ص102 الناجي). مع العلم أن السيد محسن الحكيم رفض اصدار فتوى تدين جرائم الانقلاب البعثي التي تمثلت في ممارسات الحرس القومي من تعذيب واعدامات عام 1963، إلا أن السحر قد انقلب على الساحر بعد انقلاب البعث في 17 تموز 1968 حيث اصدر الانقلابيون قرار بعدم اعفاء طلبة العلوم الدينية من الخدمة العسكرية، واتهام السيد مهدي الحكيم بالتجسس من خلال سلاح الفتاوى الدينية التي سوقت من خلال السيد محمد الحسني البغدادي بالضد من نجل السيد محسن الحكيم التي جاء فيها: هؤلاء جواسيس تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف(ص112 الناجي).
مع هذا نجد الباحث أحمد الناجي في كتابه قد سلط الضوء على اغفال السيد عدنان الحسيني في كتابه (مائة عام من ذاكرة وطن) ما يلي؛ مع العلم أن الكتاب منجز تاريخي ابداعي يحسب للسيد الحسيني كونه كان حيادياً وموضوعياً مستقلاً في آراءه:
– اغفل النظر نحو بعض تداخلات المرجعية الدينية والتحولات الحاصلة في زعامتها، وفي تداخلات مجيء السيد ابو القاسم الخوئي، الذي برز دوره بقوة عقب رحيل السيد محسن الحكيم ص114.
– الفرصة قد فاتت على المؤلف بتبيان العلاقة بين السلطة السياسية والمرجعية الدينية عام؛ وهي موضوعة الكتاب ص117/118.
– عدم الاهتمام بالسياق التاريخي من حيث التسلسل الزمني للأحداث ص121.
– التنقل تارة بين استعمال التاريخ الهجري وتارة أخرى الميلادي ص121.
– هناك بعض الاختلافات بين ثنايا الكتاب في التعابير والاسماء والامكنة ص121
– هناك حالة مكررة لا داعي لها، تنطوي على ذكر المصدر نفسه وبالصفحة نفسها في المتن والهامش.
– اغفل المؤلف عن موقف المرجعية الدينية من قرارات التأميم للشركات الخاصة في 14 تموز 1964 ص106.
– اغفال المؤلف لما يتعلق بالمرجع الديني الايراني السيد الخميني وعلاقته بالمراجع الدينية وخاصة مرجعية الحكيم، فضلاً عن اهمال دور الخميني وموقفه من العلاقات العراقية الايرانية، وموقفه من نكسة حزيران 1967، وموقف الخميني من انقلاب 1968، وموقف الخميني من ترحيل الطلبة الايرانيين المقيمين في العراق عام 1969، وموقف الخميني من حملات التسفير نيسان 1969، وموقف الخميني من بيان 11 آذار 1970، وموقف الخميني من حرب تشرين وما بعدها 1973، وموقف الخميني من اتفاقية الجزائر 1975، وموقف الخميني من الزيارة الاربعينية واحداث خان النص شباط 1977، ص119/120.
مع هذا اشد على يد الأخ السيد عدنان الحسيني على منجزه (مائة عام من ذاكرة وطن)، فضلاً عن القراءة الدقيقة للصديق الباحث أحمد الناجي في كتابه الرائع والجميل والحيادي دون مجاملة (الوطن.. ذاكرة لا تغفو).