عن محمود درويش بعد رحيله: سيرة أم مذكرات؟
نقول عادة عن الكتب إن هناك كتبا قراءتها واجب، وأخرى قراءتها متعة. وما نقوله عن الكتب يشمل كل الأجناس الأدبية والفنية، بل «الأدب الصحافي» على قلق هذه التسمية. في هذا السياق، أتابع بشغف ومحبة ما يكتبه البعض من أصدقاء محمود درويش، عن تفاصيل في حياته. وهي مدونات ممتعة، تنضوي إلى السيرة الذاتية، وتكشف عن ناحية في حياة الراحل الكبير، لا نعرفها. ولا أظن أنه، بميسور أي منا، نحن الذين لم نكن نعرف درويش إلا في المناسبات العامة، أن يدرك شتى الأفكار المتغلبة على هذه الشخصية الفذة، وأن ينظر إليها من ناحية نفسها، ونوازعها الخاصة وبواعثها الدخيلة؛ وهي لا شك في غاية التعقيد؛ فلا نملك إلا أن نقف على حدودها، دون أن نقدر على السير في مجاهلها. ولذلك تظل شخصية محمود درويش على «وضوحها» الشعري، محفوفة بغموض غير يسير. وما يُكتب عن سيرته، قد يكون من صنع كاتب أو كاتبة بارعة ماهرة؛ يتنخل وقائع بعينها ـ وهذا حق أي كاتب ـ وينسقها تنسيقا خاصا؛ وهو يوزع ظلا هنا وضوءا هناك؛ عسى أن يحفظ للشخصية نوعا من الاتساق، ويظهر سير التفاعل بينهما (هو/هي) خاصة أننا إزاء شخصية «غير عادية» استطاعت أن تجعل من نفسها «أيقونة» و»رمزا» على الرغم من أن محمود يقول إنه «لم يسعَ شخصيا إلى ذلك، وإنما هو الحظ الذي وفر له هذه المكانة».
رأيت محمود أول ما رأيته عام 1977 في القيروان في الأمسية التي أقامها في بهو دار الثقافة، وشاركته فيها أنا ومحمد الغزي وبشير القهواجي، وما أزال أستظهر حتى اليوم مقاطع من مرثيته في راشد حسين. وقد أدركت يومها أنني في حضرة شاعر استثنائي. ومع أني التقيته مرات أخرى في تونس والمغرب والقاهرة وفلسطين «رام الله» فما أزال أذكره في لقاء في تونس عام 1991، قبيل اندلاع حرب الخليج الثانية بحوالي نصف شهر (غزو الكويت). كان مؤتمر الأدباء العرب منعقدا في تونس. صبيحة يومه الثاني، كنت أنا ومحمد الغزي واقفين في بهو فندق الشرق، عندما رأينا محمود درويش يدلف في صمت، ويلقي نظرة عامة على المكان، وإذ رآنا تقدم إلينا، صافحنا ثم توسطنا وهمس:» هل تقبلان أن تتغذيا مع أبو عمار؟» ودونما تردد، وربما في دهشة المباغتة؛ قلت» أجل.. يسعدنا ذلك كثيرا». كانت هناك سيارة. ركب محمود إلى جانب السائق وهو يقول: «سنتغذى في بيت حكم بلعاوي في قمرت (ضاحية في تونس).. وهناك آخرون.. ربما سبقونا». تجاذبنا طوال الرحلة القصيرة أحاديث عامة حول الشعر. حدثناه عن قصيدته المنشورة وقتها «الهدهد» وعلقنا على أدائها الصوفي، وشاركناه الرأي في أنها ليست قصيدة صوفية. والتفت إليّ ـ وقد أدركت أنه لا يحب أن يكون محور الحديث ـ وأخذ يثني على رسالتي الجامعية عن أدونيس، ويعلق على بعض ما جاء فيها. ولم أسأله عن كيفية حصوله عليها، فقد حدست أنه استلمها من الشاعر والمترجم العراقي كاظم جهاد، في باريس.
كان هناك كتاب وشعراء معروفون: سهيل إدريس وفخري صالح وأحمد دحبور ويحيى يخلف وغسان زقطان… بقينا بانتظار أبوعمار أكثر من ثلاث ساعات؛ ولا حديث إلا عن الحرب المحتملة بين أمريكا والعراق، تتخلله من حين إلى آخر نادرة من هنا أو هناك؛ وكان أكثرها يجري على لسان محمود. وهذه ناحية في شخصيته، قد لا تكون معروفة لدى كثير من قرائه. وقد تعززت عندي، في لقاءات أخرى؛ وأدركت أن درويش صاحب سخرية لاذعة لطيفة، ومقدرة فائقة على إدارة الحديث بذكاء وفراسة لافتيْن. ما جعلني أكلف أحد طلبتي بإعداد رسالة ماجستير عن «شعرية السخرية في شعر محمود درويش». والحق أن الانطباع الأول الذي حصل عندي، عندما التقيته أول مرة في القيروان عام 1977، كان خاطئا؛ فقد ذهب في ظني أن شخصيته مزيج من صمت وحدة طبع وحزن، وربما شيء من الزهو. ثم أدركت أن في شخصيته أكثر من ناحية إنسانية ملحوظة كالألفة والأنس والانشراح، تشع من عينيه ونظراته النافذة؛ كلما اطمأن إلى جليسه، بل هو يتقبل حتى المزاح الذي لا يخلو من غمز لطيف.
ثمة سؤال لا يمكن تلافيه في هذه «المدونات» أو «المذكرات»: أعلينا دائما إجراء هذا التمييز بين المؤلف والسارد، خاصة كلما كان السارد هو الكاتب نفسه مثلما هو شخصية في القصة التي يرويها مثلما هو القارئ أيضا؟ وما إلى ذلك من أسئلة؛ فكيف نحد العلاقات ونرسم الحدود بين «الداخل» في العالم المحكي و»الخارج»؟
خريف 2000 في رام الله ، كان الشاعر المتوكل طه، يمازحه بجرأة؛ حتى أخجل الشاعرة المغربية وفاء العمراني. كان محمود يسترسل لمزاح محدثه، حتى يهتدي إلى الخيط الذي يلفه بيسر وخفة، على لسان هذا أو ذاك من أصدقائه، الذين يذهبون أحيانا، في المزاح بعيدا؛ فإذا هو في الظل، والآخر في الضوء، تتعاوره الألسنة من هنا وهناك. في ذلك اليوم من شتاء1991، ونحن بانتظار أبو عمار، علق محمود على هيئة أحد الفلسطينيين: «هذا من أثر الزواج.. يبدو أن الزواج يضفي على المرء قالبا خاصا».
ما يكتب عن درويش، بعد رحيله، ليس من أدب التراجم ولا الاعترافات، وإنما هو «سيرة» وتخييل، أو هو ملتقى الفن والحياة؛ أو «الحق» الفني و»الحق» التاريخي. ولعلها من «السرد التخيلي» حيث يلتبس التاريخ بالواقع والسيرة والرحلة أو السفر. والسرد أو القـَصَص مهما يكنْ نصيبه من الواقع، أو من الإيهام به، لا يعدو كونه تخيلا أو افتراضا. وخير دليل لذلك هو اقتصاص أثر اللغة نفسها في هذا النمط من الخطاب، والعلائق المعقودة بين القص أو الإخبار في السياق الذي نحن فيه، والسيرة أو الحكاية. فثمة صلات وثيقة بين الإخبار والحكاية سواء في المستوى الزمني أو في مستوى الشخصية.
ثمة سؤال لا يمكن تلافيه في هذه «المدونات» أو «المذكرات»: أعلينا دائما إجراء هذا التمييز بين المؤلف والسارد، خاصة كلما كان السارد هو الكاتب نفسه مثلما هو شخصية في القصة التي يرويها مثلما هو القارئ أيضا؟ وما إلى ذلك من أسئلة؛ فكيف نحد العلاقات ونرسم الحدود بين «الداخل» في العالم المحكي و»الخارج»؟ أو كيف نضبط الزمنية، ونحن نقيس الفارق الكبير تقريبا بين زمن الفعل السردي وزمن القصة؟ ثمة في كل نص سردي ما يغري القارئ بإدماج الصوت السارد بمؤلف النص، خاصة كلما توسطت أنا السارد بين القارئ والقصة
هذا «الأنا السارد» أو هذا القارئ الذي يروي أو يسرد، لا أحد يجعله المؤلف. ولعل هذا مما يتيح له أن يحصر السلطة في شخصه من جهة، وأن يجعل الذهن يتركز في الشخصيات الرئيسية، من جهة أخرى أي تلك التي يبسط عليها هذا السارد سلطته اللغوية، أو هي تدور في فلكه. ومثل هذه القدرة لا تمتح أمشاجها وعناصرها من ملكة غير إنسانية، وإنما من ذاكرة قوية تتيح لأي سارد أن يندس في سريرة الشخصية، ليجلوها في مجلى الظاهر أو الواقع. نحن هنا إزاء «مدونة» هي ليست اعترافات حتى تلحق بأدب الترجمة أو السيرة الذاتية؛ وإنما هي ثمرة عمل «جمالي» معقد، هو من سعي القارئ. ويتمثل هذا العمل في صنع جهاز سردي يندرج فيه السارد: الحبكة والشخصيات والموضوعات والأسلوب، بما في ذلك هذا السارد الذي يتخذ وضعا مواربا، أو هو لا يؤتمن على سر. وهذه كلها تؤول إلى «خطة» أو «سياسة» أو ما يسميه المعاصرون «استراتيجيا الكتابة» أي «سياسة الكتابة» وإلى مقصد هو مقصد المؤلف، أي ما يُصطلح عليه بـ»المؤلف المتوهم» أو «المتضمن» أو»صورة المؤلف النصية». لكن ما يميزه في هذا النوع من الأدب، أن مقصده يلتبس بأفكار المؤلف «البيوغرافي» وحالاته، بل هو أدب يشي بصاحبه، حتى وهو يتستر خلف بعض شخصياته؛ ودليلنا على ذلك هذه اللغة «العاشقة» التي لا يتحرر صاحب النص من سطوتها، بل نحن نحار في غير موضع من هذه المدونات: فمن هو المتلفظ فيها؟ بل أنحن إزاء متلفظ واحد أم متلفظين؟ بل صوت من هذا الصوت السردي الذي يسند القول إلى «الشخصية» ثم يحتجب، ليعود فيملأ فعل القول «قال»؟ أهو «القاص» أي «الذي يتبع الآثار ويأتي بالخبر على وجهه» كما جاء في مدونة التفسير عند أسلافنا؟ الحق أن الصوت السردي في النص، ليس بالذي نسمعه دائما، فهو متكتم صامت وكأنه يطوي سرا، أو كأن شأنه شأن الحرف الذي لا يلفظ، أو هو صوت أخرس.. وهي على ذلك نصوص تسلط الضوء على تفاصيل في حياة محمود؛ كانت لولاها ستغيض في العتمة شأنَ الظل يرسم تقلبات الضوء، ولا يستقر على حال، ولا يلبث البتة في المكان نفسه، وإنما هو في تحول أبدا، بل يغيض كلما غابت الشمس وهبط الليل. كذلك الشعر، والشعراء الاستثنائيون مفاهيم للشعر. والمفهوم يغيض أحيانا كثيرة في عتمة القصائد. لكن هل مفهوم الشعر غير صيرورة الشعر وهو يقول نفسه.