رستم حيدر… اللبناني الذي دفن جوار الملك فيصل
يمثل السياسي اللبناني/العراقي رستم حيدر حالة فريدة في مسار السياسة العراقية في تاريخها المعاصر، إذ قدم إلى العراق مع الملك المؤسس فيصل الأول، وعمل معه طوال فترة حكمه، وعندما توفي الملك فيصل في رحلة علاجه في سويسرا، كان رستم حيدر جواره، واستمع إلى آخر كلماته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وبعد مرور سبع سنوات ، تعرض رستم حيدر إلى عملية اغتيال في مقر وزارة المالية، حيث كان وزيرا للمالية في وزارة نوري السعيد عام 1940، وتوفي متأثرا بجرحه بعد ثلاثة أيام، وتم تشييع جثمانه تشييعا رسميا ودفن في المقبرة الملكية في الأعظمية في بغداد جوار الملكين فيصل الأول وولده غازي.
قصة رستم حيدر، قصة كفاح حقيقية لشخصية صلبة تمتاز بالإصرار على النجاح والدأب والصبر على مشاق الأعمال. ويذكر مير بصري في كتابه (أعلام السياسة في العراق): «هو محمد بن رستم بن علي حيدر. ولد في بعلبك لأسرة معروفة سنة 1889، ودرس في دمشق، ثم في المدرسة الملكية الشاهانية في إسطنبول، وتخرج فيها سنة 1909 وأسس وهو طالب في عاصمة الدولة العثمانية، مع زميليه عوني عبد الهادي طالب الحقوق، وأحمد قدري طالب الطب، جمعية عربية سرية باسم (العربية الفتاة) لبث الروح القومية، ثم رحل إلى باريس وأتم دراسته العالية في جامعة السوربون في مدرسة العلوم السياسية، وتخرج سنة 1912». وبعد إتمام دراسته العليا، ابتدأ مشوار عمله إذ عاد إلى سوريا فعين مديراً للمدرسة السلطانية في خربوط، فمديراً للمدرسة السلطانية في دمشق عام 1913 حتى إغلاقها عند نشوب الحرب العظمى، وجند الشاب رستم حيدر كضابط احتياط في الجيش العثماني، ثم أسس جمال باشا والي سوريا حينذاك المدرسة الصلاحية في القدس، وعهد بالإشراف عليها إلى الشيخ عبد العزيز جاويش وعبد القادر المغربي، فعين رستم معاوناً لمديرها ومدرسا للتاريخ والاقتصاد.
بقيت عملية اغتيال رستم حيدر من الأحداث الغامضة في تاريخ العراق، فليس للرجل أعداء، ولم يكن من النوع العنيف أو الصدامي، بل كان لطيفا، مهذبا مع الجميع
وفي سيرة رستم حيدر التي أوردها خير الدين الزركلي في «قاموس الأعلام الجزء 5»: أنه «خرج من دمشق، متخفيا، مع أشخاص آخرين، في أواخر الحرب العامة الأولى، فلحقوا بجيش الأمير فيصل بن الحسين، ثم عاد فدخلها مع الجيش الفاتح». وظل رستم كاتبا لسر الأمير في دمشق، حتى عين الفريق شكري باشا الأيوبي حاكما عسكريا للبنان، فاختير رستم مساعدا له في لبنان، ولم يطل عهد الحكم العربي ومقر حكمه بیروت، إذ أن الجيش الفرنسي احتل السواحل، وأنزل العلم العربي المرفرف في بيروت، فعاد رستم إلى الشام رئيساً لديوان الأمي، ثم رافقه إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرساي 1919 مندوبا ثانيا، وصحبه في زيارته للندن. ولما ولي فيصل عرش العراق سنة 1921 جعله سكرتيرا خاصا له، ثم رئيسا للديوان الملكي، ثم كان وزيرا مفوضا في إيران، فوزيرا لمالية العراق، فرئيسا للديوان الملكي سنة 1934 في عهد الملك غازي بن فيصل.
ويشير حنا بطاطو في كتابه عن العراق إلى رستم حيدر فيقول: «كان الشريفيون السابقون ضباطا في الجيش العثماني، باستثاء عدد صغير من المدنيين أبرزهم رستم حيدر، وهو مدير مدرسة سابق يحمل إجازة في السياسة من السوربون، وسليل عائلة عربية شيعية من ملاك الأراضي في بعلبك، أصبح سكرتيرا خاصا لفيصل الأول، ورئيسا للديوان الملكي». ويبدو أن رستم حيدر كان ينظر إلى التقدم الذي يمكن أن يحدث في الأمم نتيجة جهود قادتها، فقد كتب رسالته الجامعية في السوربون عن مشروع محمد علي باشا في نهضة مصر، ويبدو أنه عاهد الملك فيصل على دعمه في لعب دور نهضوي في بناء الأمة العراقية، ومن تتبع سيرة رستم حيدر نستطيع أن نكتشف أنه كان يعيش حياة متقشفة ليس فيها سوى العمل، فقد عاش وحيدا في مسكنه في بغداد وتوفي وهو في الحادية والخمسين أعزب؛ ومما يروى عن نزاهة وصرامة رستم حيدر، إنه عندما كان وزيرا للمالية سنة 1930، لم يتورع عن إنذار الخزينة الملكية الخاصة بوضع الحجز على مزرعة الحارثية الملكية، بغية تسديد الرسوم المتأخرة، تنفيذاً لقانون تحصيل ديون الحكومة المتأخرة عن الأشخاص المدينين. فلما اعترض ناظر الخزينة على ذلك، قال رستم: «إنني أنفذ إرادة جلالة الملك، فهو الذي وقع على القانون بيده، وأنا أعمل على تشريف توقيع جلالته بالحجز على الحارثية، فإذا سمح بذلك فإنه يكون قد وضع الحجر الأساسي لاحترام القانون في الدولة»، ولم يكن من الملك فيصل الأول إلا أن أمر بأداء ديون الحكومة عليه فوراً، تخلصا من حجز أملاكه.
وبقيت عملية اغتيال رستم حيدر من الأحداث الغامضة في تاريخ العراق، فليس للرجل أعداء، ولم يكن من النوع العنيف أو الصدامي، بل كان كيسا، لطيفا، مهذبا مع الجميع، وربما يشير البعض إلى شيعية رستم حيدر كونها عائقا في الطبقة السياسية الملكية، إذ يشير مير بصري إلى أن رستم حيدر «جاء إلى العراق غريبا، لكنه أحب البلد وأهله، وأخلص لمليكه ووطنه الجديد. وقد أشار على الملك أن يوحد أبناء الوطن، ويجمعهم تحت ظله بلا تفرقة ولا تمييز، وحمله على تقريب الشيعة وتثقيفهم، ودعوتهم إلى المشاركة في الحكم، بعد أن كانوا أشبه بالغرباء في عهد الحكومة التركية السنية». وذكر السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه «تاريخ الوزرات العراقية ج5» أنه «فهم من صالح جبر أن رستم حيدر ذهب ضحية لمؤامرة دبرها خصوم نوري السعيد لإضعاف وزارته، أو أن الألمان هم الذين دبروا الجريمة». أما القاتل مفوض الشرطة السابق حسين فوزي توفيق، فقد أصدرت المحكمة حكمها عليـه بالاعدام، لثبوت ارتكابه الجريمة باعترافه. وتم تنفيذ الحكم فيه فجر يوم الأربعاء 27 آذار/مارس 1940أي بعد صدور الحكم بأسبوع واحد .كما ذکر طه الهاشمي- الذي كان وزيراً للدفاع في ذلك الوقت ـ في مذكراته عن يوم تنفيذ حكم الإعدام بحسين فوزي توفيق ما يأتي: «أخبرني سعيد يحيى الذي حضر تنفيذ الحكم في قاتل رستم حيدر، قال بأنه لم يبلغ حكم الإعدام إلى المجرم إلا قبل الشنق، فهتف بحياة هتلر وهتف ليسقط نوري السعيد، الذي علمه الانحراف. وكنت أشك في سلوك نوري تجاه المجـرم. وكان اتصـالـه بـه ليـلا من دون رقیب، ثم إسراع المجرم إلى الاعتراف بعد خروج نوري من غرفته. بينما كان قد أنكر قبل ذلك كل تحريض له، وذكر أنه اغتال رستم لأنه يعتقد بضرره للعراق وأنه لم يلب طلبها» ويكمل الهاشمي بقوله: «وأذكر أني قلت لنوري يوماً أني أرتاب من علاقة الرتل الخامس في حادثة الاغتيال، ومن الجائز أن عملاء الألمان حرضوا القاتل على الاغتيال ، ليحدثوا شغباً بين الشيعة والسنة. وكان قد شاع أن القاتل كان في ألمانيا. فلما سمع نوري هذا الخبر ارتاح له».
ويذكر نجدة فتحي صفوة في مقدمة كتاب «مذكرات رستم حيدر» التي حققها: «ومن الجدير بالذكر أن صالح جبر لم يكن الشخص الوحيد الذي لمح إلى احتمال وجود أصابع ألمانية في مؤامرة مقتل رستم حيـدر، إذ أن جيـرالـد ديغوري أيضاً يعزو تلك الحادثة بصراحة إلى الدسائس الألمانية التي بدأت في العراق في بداية الحرب العالمية الثانية، إذ يقول في كتابه «ثلاثة ملوك في العراق» إن الدسائس الألمانية التي كانت تنضج في الخفاء، ظهرت إلى السطح بمقتل رستم حيدر وزير المالية وصديق فيصـل الأول ومستشاره، وأجـدر أعضاء الحكومة بالثقة واكثرهم تجربة، بيد ضابط شرطة سابق». ويضيف نجدة فتحي صفوة: «ولما كان ديغوري وثيق الصلة برجال الدولة في العهد الملكي، ومطلعاً على خفايا كثير من الأمور، وصديقاً شخصياً للوصي الأمير عبد الإله ، فإن ما يصدر عنه من رأي في مثـل هذه الحادثة، جدير بالتأمل. ومع ذلك فإن ديغوري لم يشر إلى المصدر الذي استند إليه في ما ذكره، ولم يعـزز قولـه بدليـل يمكن تصديقه أو تكذيبه».
إن حادثـة الاغتيال بقيت مشـوبـة بكثير من الغموض، وإن تصرفات نوري السعيد على أثر إطلاق الرصاص على رستم حيـدر ، وما أظهـره من ارتباك ، ومقابلته الجاني في السجن على انفراد، ثم تغيير الجـاني إفادته أثر تلك المقابلة، زاد في تقولات الناس وشكوكهم، إذ أنهم ربطوا تلك الزيارة بمـا قيـل من أن الجاني كـان يصـرخ وهو في طريقه إلى المشنقـة «ورطني.. ورطني»، فقالوا إن نوري السعيد وجد في هذه الحادثة فرصة لضرب عدد من خصومه السياسيين.
كاتب عراقي