ج3 فقرات من المقدمة: اللهجة العراقية بين المندائية والعربية الفصيحة
علاء اللامي*
ينسى السيد قيس مغشغش السعدي موضوع واسم اللغة الآرامية الشرقية شريكة وشقيقة اللغة العربية نسيانا تاما، ويحاول “مندأة” العامية العراقية وجعل المندائية هي “اللغة الأساس” واللغة الأم قبل أن تتحول إلى اللغة “الجدَّة” للغة المشتركة العامية في العراق، كما يقول في موضع آخر من كتابه، لنقرأ ما كتب: “وبسيادة اللغة العربية لأسباب أشرنا إليها فقد أصبح صعبا أمام اللغات الأخرى حتى وإن كانت هي أساس لغة القوم والبلاد أي اللغة الأم. وشيئا فشيئا صارت هذه اللغات هي اللغة “الجَدَّة” وحلت اللغة العربية محلها وصارت هي اللغة “الأم”. ص 62″، وهذا ما سنثبت بالأدلة والتوثيق الدقيق خطأه التام مؤكدين وجهة النظر التي تذهب إلى أن اللهجة العراقية هي لهجة عربية صميمة بل وإنها من أقرب اللهجات العربية المعاصرة إلى اللغة العربية الفصحى بمعجمها القديم لعهد ما قبل الإسلام! ونعود الآن إلى الظواهر اللغوية الخاصة باللهجات العامية والتي كان الجهل بها مصدرا لأخطاء لا تحصى ارتكبها السعدي في تأليفه لمعجمه:
المضارع المستمر في العاميات
لا وجود لصيغة الفعل المضارع المستمر المقابل لـ (Present Continuous) في الإنكليزية والتي تفيد الإخبار عن وقوع الفعل في الحاضر المستمر في قواعد اللغة العربية الفصحى. ونظراً لأهمية هذه الصيغة في الحياة اليومية، ولأن المضارع العام لا يؤديها تماما، فقد ابتكرت العاميات العربية صيغة عربية سليمة تفي بالغرض. ولكن صاحب معجم المفردات المندائية يعتقد أن هذه الصيغة جاءت الى العامية العراقية من المندائية؛ فتارة يقول إن صيغة “كا” في اللغة المندائية وتعني هنا أو ربما تناظر استخدام دا في اللهجة البغدادية حيث يقال (دا آكل) و (دا اكتب) ص 275، وتارة أخرى يقول من مقطعين مندائيين هما هما (كا) و(إد) التي تعني (حتى لكي ريثما)، وأن الربط بينهما يفيد معنى “هنا لكي” أو “أو هنا ريثما” أو “هنا حتى”ص 276″، وقد رددت على كلامه المضطرب هذا في الفقرة (432) من هذا المعجم.
ولكن الجزء الأول من كلام السعدي يبقى صحيحا وهو أن كلمة “قاعد” ومثلها “جاي” تجعل الفعل في حالة الاستمرارية في الحاضر، والتي تقابل في اللغة الإنكليزية ما يسمى زمن الحاضر المستمر (Present Continuous).
ولكن الرجل يجهل هذه الظاهرة التي تعم العاميات العربية مشرقاً ومغرباً بصيغ متقاربة وما كتب عنها لفقر بضاعته وثقافته اللغوية فحشرها في جملة ما حشر ضمن معجمه المندائي.
في معنى استمرار الفعل في الحاضر، يقول العراقي مثلا، ردا على سؤال “شدّ تسوي هسع؟ ماذا تفعل الآن؟”، ” قاعد أكتب/ قاعد آكل/ جاي اتفرج على التلفزيون/ جاي ألعب رياضة”…إلخ وغالبا ما يتم اختصار الجوال إلى ” دَ أكتب/ دَ آكل…إلخ”، وفي العامية المصرية يقابل هذه الصيغة قولهم (أنا باكل/ أنا بلعب…). والباء التي تسبق الفعل هنا حرف مختزل عن (بقى) أو (باقي) أي (أنا باقي آكل/ أنا باقي ألعب) بما تعنيه (باقي) من عدم الانقطاع والتوقف عن الفعل.
وفي لهجات بلاد الشام تسبق الفعل المضارع لفظة (عَمْ) وبعدها الباء لتفيد الاستمرارية في الحاضر. فرداً على سؤال يقول ” شو عم تعمل هالق؟” يقولون “عم باكل / عم بلعب”. وأعتقد أنَّ (عم) هنا هي اختزال لكلمة “عَمْال”، وهلق مختصر لعبارة ” هذا الوقت إبدال بالقاف الى همزة في لبنان خصوصا.
أما في المغرب العربي وخاصة في الجزائر فيقولون (راني آكل، راني ألعب) وتعني على الأرجح؛ أراني أو تراني آكل، وفي تونس وليبيا تحل محل لفظة “راني” لفظة قريبة منها هي “هاني” المدغمة من (ها إني) يقولون ” هاني نكتب، هاني ناكل…إلخ.
في العامية العراقية والخليجية فالمشتق اسم فاعل هو “قاعد/ جاي”، وليس هناك أي تركيب أو تقطيع إلى جزء أول وثانٍ، بل هناك اختزال من قاعد إلى دال مفتوحة قبل الفعل المضارع كما يرى العلوي مثلا، أو اختزال من جاي إلى دال بتذكر الإبدال بين الجيم الدال. أما الباء المفتوحة قبل الفعل المضارع في اللهجات المصرية والشامية والسودانية وبعض جهات اليمن فهي اختزال لكلمة “باقي” وهذا هو الاختزال الأرجح بين عدة احتمالات ويقتبس العلوي عن أنيس المثال التالي من مصر لتسويغ وترجيح الاختزال إلى باء (بقى له كذا يوم يعمل).
وأخيرا، فقد كانت الباء التي تفيد الاستمرارية موجودة في الأندلس العربية كما ورد في هذا المثل القديم (إذا رأيت الأمير بيضمك فاعلم أن قلبي بيبكي).
كشكشة ربيعة
لا يخلو موضوع الكشكشة من التعقيد والتداخل مع ظاهرة أخرى هي شنشنة اليمن. فلدينا أولاً إبدال الكاف بصوت أقرب إلى “تش” أو ما يضاهي صوت (CH) في الإنكليزية، ويكتب جيما ثلاثية (بثلاث نقاط تحتها “چ”). والكَشْكَشَةُ لغة (لهجة) لربِيعة، وفي الصحاح: لبني أَسد، وهذا الصوت لا وجود له في اللغة العربية الفصحى، والمرجح أنه انتقل الى لفظ القبيلتين العربيتين ربيعة وأسد من اللغة الفارسية بحكم المجاورة الجغرافية كما يرجح العلوي، حيث استوطنت القبيلتان مناطق الخليج العربي وشماله المجاور لبلاد فارس، ثم شاعت الكشكشة في العراق والخليج. ولكني أتحفظ على هذا التعليل الذي يطرحه الراحل العلوي، إذْ أنَّ قبيلة طي الكبيرة، والتي كانت بحجم شعب متوسط، كانت هي الأقرب والأكثر اختلاطا بالفرس من غيرها، ولكن لغتها ظلت خالية من الكشكشة كما أن الكشكشة موجودة في لهجة أهل الخليل في فلسطين ويقال إنها موجودة في مدينة جيجل الجزائرية ولم أتحقق من ذلك شخصيا. فهل ثمة علاقة لهذا الموضوع بكون ربيعة وأسد من القبائل العدنانية الحجازية وقبيلة طي من القحطانية اليمانية؟ ولأن هذا الصوت لا وجود له كحرف في اللغة العربية فقد عمد بعض القدماء إلى كتابته شيناً فاختلطت ظاهرة الكشكشة بأخرى هي شنشنة اليمن ومؤداها (قلب الكاف شينًا مطلقاً. فيقال: كيف حالش؟، أي كيف حالكِ؟ ونسبها ابن عبد ربه لقبيلة تغلب فقد سُمِعَ بعض أهل اليمن في عرفة يقول: “لَبِّيشَ اللُّهمَّ لَبَّيشَ”، أي لبَّيك، ولا تزال هذه ظاهرة صوتية شائعة في اللهجة الحضرمية وهي لغة مشهورة في اليمن وعُمان وعسير وما جاورهما). فهل نحن إزاء ظاهرتين الأولى هي كشكشة ربيعة وأسد والثانية هي شنشنة اليمن أم أنها ظاهرة واحدة باسمين مختلفين؟
أعتقد أن كشكشة ربيعة وأسد هي نفسها شنشنة اليمن سوى أن القدماء لم يستعملوا حرفا كالجيم المثلثة الذي نستعمله في عصرنا فاستعملوا الشين لتؤدي دوره. إنما ينبغي التفريق بين ظاهرة الكشكشة سواء كتب حرف الكاف بالجيم المثلثة أو بالشين على طريقة القدماء وظاهرة أخرى هي إلحاق الشين بالكاف والذي تكلم عنه ابن منظور في اللسان وقال (وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ الشِّينَ بَعْدَ الْكَافِ فَيَقُولُ: عَلَيكِشْ وإِليكِشْ وبِكِشْ ومِنْكِشْ، وَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ خَاصَّةً، وإِنما هَذَا لِتَبِين كسرةُ الْكَافِ فيؤَكد التأْني).
وأضيف هنا أن موقف الراحل هادي العلوي الذي عبر عنه في كتابه “المعجم العربي الجديد – المقدمة” والصادر مبكرا في 1983 والذي قال فيه “ليس للكشكشة علاقة بشنشنة اليمن، خلافا لوهم العلامة إبراهيم أنيس، فالشنشنة هي تحويل الكاف شينا خالصة وهي لاتزال في لهجة اليمن المعاصرة. كما في هذه الأغنية اليمنية الحديثة:
لا تكثري اللوم
لو قلبي عليش قبقب
طعمش مثيل الرطب
والعرف روتي وتونة/ ص 23″، وبين ما قاله في مقدمة معجمه العربي المعاصر “معجم الإنسان والمجتمع” الصادر سنة 1997، أي بعد أربع عشرة سنة، ونصه (الكشكشة كانت في ربيعة وأسد وكلاهما استوطن العراق فشاعت فيه. وأصل ربيعة في نواحي الخليج ولا بد أنها اخذت هذا الإبدال من الفارسية بحكم المجاورة. ولا وجود لهذا الصوت في اللغات السامية وقد أوقعه اللغويون في كاف المخاطبة نحو عليتش وكتابتش. وكتبوه شيناً لعدم رسمه في الخط العربي… وقد سميته في معجمي “تشين” ورسمته تش على الطريقة المتبعة في مضاهاة الحرف الإنجليزي. ص 88 المعاصر”.
والعلوي هنا كما يبدو قد عدَّل رأيه السابق وأمسى يميل إلى رأي إبراهيم أنيس الذي يعتبر الكشكشة هي شنشنة اليمن نفسها، ويبقى تفسير لفظها في مثال الأغنية التي جاء بها العلوي بالشين ممكناً ربما في تقارب لفظ الشين والجيم المثلثة في اللهجة اليمنية وهذا التقارب أو الخلط هو ما نجده يحدث لدى العرب من غير العراقيين الذين يريدون مثلا أن يقلدوا الكلام بالكشكشة عند العراقيين فيلفظون الجيم الثلاثية شيناً.
ومن الأمثلة الأخرى التي يوردها ابن منظور ويكتبها بالشين التي حلت محل الكاف بعد أن تكشكشت نقرأ الآتي (وأَنشدوا لِلْمَجْنُونِ:
فَعَيْنَاشِ عَيْنَاهَا وجِيدُشِ جِيدُها
ولكنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْشِ رَقيقُ/ اللسان”.
هناك ظاهرة صوتية أخرى تسمى “الكسكسة النجدية”، لم نتوقف عندها لانعدام علاقتها بسياق وحيثيات كتابنا هذا. ونقرأ عنها: “والكسكسة ظاهرة صوتية لغوية قديمة والكسكسة قلب كاف المخاطبة سينًا، أو إلحاقها سينًا. تنسب هذه الظاهرة إلى بكر بن وائل، وهوازن، وحي من تميم. ولها ثلاث صيغ: إلحاق الكاف سينًا وقلب الكاف سيناً، وقلب الكاف إلى «تس» مدغمةً فيقال: مررت بتس، يقصد: مررت بكِ. وهذه هي الأكثر انتشاراً في نجد، إذ هي مسموعة في اللهجة القصيمية، واللهجة الحائلية، ولهجات شمال نجد”.
في هذا المعجم الصغير سنتابع العديد من مفردات اللهجة العراقية والتي اعتبرها مؤلف كتاب “معجم المفردات المندائية في العامية العراقية”، قيس مغشغش السعدي، مفردات مندائية أو ذات جذور أو اشتقاقات مندائية، وهي في الحقيقة كلمات ذات عربية فصيحة أو جذور عربية أو هي اشتقاقات من تلك الجذور ولكنها كاف لفظت بكشكشة ربيعة لا أكثر ولا أقل ولكنه كما يظهر لم يسمع بهذه الظاهرة اللهجوية للأسف.
أنواع الجيم السبعة
لنبدأ بالجيم المعطشة وهي الجيم الفصيحة، الشديدة، المنقطعة (المحبوسة) والتي نسمعها في العربية الفصيحة والعاميات في وسط وشمال وغرب شبه الجزيرة العربية والعراق، والسودان وبعض مناطق اليمن. يخرج حرف الجيم المعطشة بقوة وبهيئة الصوت الشديد المجهور حيث أنه عند النطق بحرف الجيم يتصادم طرفي اللسان مع الفم جيداً، مما يعطي حرف الجيم صفة الشدة. وفي القرآن الكريم أو في اللغة العربية الفصحى عامة لا يوجد إلا حالة واحدة لنطق حرف الجيم وهي الجيم الفصحى، ومخرجها الصحيح هو وسط اللسان عن طريق تصادم اللسان مع سقف الفم الأعلى ولا يجوز أن يخرج اللسان خارج الفم عند نطقها.
إن تعطيش الجيم كمصطلح لغوي لا وجود له في مؤلفات اللغويين العرب القدماء بل هو من ابتكار المحدثين كما يرى عالم القراءات العشر د. أيمن سويد، الذي يرى – واتفق معه في ما يرى -أن معنى التعطيش يعني وقف جريان لفظ الجيم. ونعني بالجريان جعل الجيم كما يلفظه أهل لبنان وسوريا والمغرب العربي ويسمونها هناك الجيم الرخوة، بمعنى يستمر الصوت بالجريان مع النفس، أما الجيم المعطش فلا يجري فيه الصوت بل يتم تعطيشه (وقف جريانه) بتشديد لفظه وحبسه فيتوقف بمجرد تلفظه عن الجريان.
إن الجيم المعطشة العربية الفصحى لا وجود لها في اللغات الجزيرية القديمة. ويعتقد بعض المعجميين والباحثين – ومنهم هادي العلوي – أن حرف الجيم القديم أو الجزيري هي نفسها القاف الحميرية أو الجيم القاهرية. كما أن وجود هذه الجيم الفصيحة في اللهجة العامية العراقية نقطة تحسب لمصلحة قرب هذه اللهجة من اللغة العربية الفصحى في مهدها الجزيري وبعدها عن اللغات السامية الأخرى التي ينعدم بها هذا الحرف بهذا التصويت.
أما الجيم الفارسية أو المثلثة بثلاث نقاط فهي الكاف المُكشكشة بكشكشة ربيعة.
ولحصر أنواع الجيم في اللغة العربية والعاميات في نقاط مختصرة ونقول؛ إن حرف الجيم موجود في اللغة العربية الفصيحة والعاميات العربية بسبعة أصوات هي:
1-الجيم العربية الفصيحة المعطشة كما يلفظها أهل العراق والجزيرة العربية في الفصيحة والعامية وهي المعول عليها والقياسية في القراءات القرآنية بشرط ألا يُبالَغ في التعطيش فتنقلب الجيم دالاً في القراءة ويتغير المعنى.
2-الجيم الفصيحة الجارية (الرخوة) في بلاد الشام والمغرب العربي وهي أوضح ما تكون في لبنان وتونس. وتسمى من قبل بعض الباحثين الجيم الشامية.
3- الجيم التي تلفظ قافا حميرية غير معطشة / جيما قاهرية. وهذه الجيم هي الجيم الجزيرية “السامية” القديمة في اللغات المنقرضة كالأكدية وغيرها.
4- الجيم المثلثة (چ) في كشكشة ربيعة وأسد التي تلفظ الكاف بموجبها”تش” او ما يقابل في الإنكليزية (CH). وقد فصلنا في هذا الموضوع في موضع أخر من مقدمة هذا المعجم.
5-الجيم التي تلفظ ياء في لهجات مناطق شرق شبه الجزيرة العربية وبعض جنوب العراق، ولهذا النطق أصل في القديم.
6- تنطق فيها الجيم زايا إذا تلتها زاي في بعض اللهجات التونسية واللهجات المغربية وأغلب اللهجات الشامية والفلسطينية. ففي تونس يقولون (زز الصوف) يريدون (جز الصوف) وفي الشام يقولون (ززرة) يريدون (جزرة)…إلخ، ولهذا النطق أثر في القديم، وقد رواه الجاحظ (وغيره) وإنْ كان ينسب هذا النطق لغير العرب. يقول الجاحظ في البيان والتبين في ذلك: “ألا ترى أن السندي – نسبة إلى إقليم السند- إذا جُلب كبيرا فإنه لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا، ولو أقام في عليا تميم”.
7- تنطق فيها الجيم دالا في صعيد مصر، ومناطق أخرى في المشرق والمغرب العربيين، خصوصا إذا جاء بعدها حرف الزاي ككلمة (جزدان) التي تلفظ (دزدان).
وعلى أية حال فهذا الكتاب الذي بين أيديكم، بما يحتويه من تخاريج تأثيلية ومعلومات لغوية وتأريخية شائقة وممتعة، ومستلة من المعاجم العربية القديمة، سيكون دون ريب، إضافة إلى ما تقدم من أهداف يطمح الى تحقيقها، مناسبةً طيبةً ونادرةً يتعرف من خلالها القارئ العراقي والعربي على الجذور العربية الفصيحة لمفردات اللهجة العراقية العربية الجميلة والثرية ثراء العراق وتأريخه الألفي.
*حذفتُ الهوامش التوثيقية من نسخة النشر كمقالة صحافية وأبقيت عليها في مقدمة الكتاب.