ما الجاذب الاقتصادي في مجموعة بريكس ؟
أنهت مجموعة بريكس قمتها الخامسة عشرة في الأسبوع الماضي، بدعوة ست دول للانضمام إليها، من بينها ثلاث دول عربية هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية. وقد حظيت القمة بأهتمام عالمي واسع، لأنها جاءت بعد نشوب الحرب في اوكرانيا، وبعد العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا العضو الكبير والمهم في هذه المجموعة.
كما تُحدثنا لغة الأرقام عن أهميتها الاقتصادية، حيث تُمثّل البريكس حاليا نحو 27 ترليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأكثر من 16% من الاقتصاد العالمي. وهذه البيانات تجعل من هذه المنظومة أكبر تكتل اقتصادي بكل المقاييس الدولية، مقارنة بالولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. وبالمقارنة مع دول مجموعة السبع نجد أن الناتج المحلي لدول السبع، قد تراجع من نحو 50% في عام 1982 إلى 30% في نهاية عام 2022. أما الناتج المحلي لدول البريكس فقد ارتفع من 10% عام 1982 إلى 31% في نهاية عام 2022. واليوم هناك توقعات تقول بأن مجموعة بريكس ستُسهم بأكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2050، فهل تُشكّل هذه الأرقام وحدها عامل جذب للآخرين للانضمام إلى هذا التكتل؟
ما جرى في قمة بريكس الأخيرة إن دل على شيء فإنما يدل على إعادة هندسة النظام العالمي الجديد على المستوى الاقتصادي، وهي مؤشرات أولية إلى نهاية العالم القديم
في عام 2014 أنشأت مجموعة بريكس بنك التنمية الخاص بها، برأسمال تجاوز 50 مليار دولار. كما وضعت آلية للسيولة لدعم الدول الأعضاء الذين يواجهون صعوبات في المدفوعات، وقد باشر البنك بتقديم قروض للاستثمار في الدول الأعضاء باليوان الصيني، ووفق ما مرسوم له سيُقدّم القروض بعملات محلية أخرى مستقبلا، وقد أصبح هذا البنك عامل جذب كبير ليس للدول الأعضاء وحسب، بل للعديد من الدول النامية من خارج البريكس، التي كانت لها تجارب مؤلمة مع إعادة هيكلة ديونها، وتدابير التقشف التي يفرضها صندوق النقد الدولي، ما جعل منه منافسا للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي. هاتان المؤسستان لديهما شروط تعجيزية سياسية وأخلاقية، يواجهان بها أية دولة من دول الجنوب تتقدم طالبة دعما ماليا، أو إصلاحات هيكلية، بالإضافة إلى سيطرة الولايات المتحدة والدول الغربية على نظام التصويت داخل هذه المؤسسات، بالتالي يكون بنك بريكس رسالة قوية لهذه المؤسسات بأنه يجب أن تُصلح نفسها من الداخل، وإلا سوف تتجاوزها منظمات إقليمية أخرى. كما أن مجموعة البريكس ستساعد الدول المنظوية تحت مظلتها على تعدد الشركاء التجاريين، وتنويع الاستثمارات الاقتصادية والتبادل التجاري، وتزيد وتقوي من العلاقات البينية، وتخفف من الضغط على الاحتياطات بالدولار من خلال التبادل التجاري بالعملات المحلية. كما أنها ستساعد في نقل التكنولوجيا، ونقل البنى التحتية، وتقدم القروض المنخفضة التكلفة، وتدفع بحركة التجارة وانسيابيتها بين دول الكتلة، وتعزز من حركة السياحة بين الدول. وهذا عامل مهم بالنسبة لدول المجموعة، خاصة التي لديها حجم تبادل تجاري بعشرات المليارات سنويا، حيث سيخفف من الضغط على احتياطاتها الإلزامية وعُملاتها المحلية، في حال كانت من الدول ذات المديونية العالية.وإذا كانت هذه الأرقام البرّاقة والتوقعات ذات النبرة العالية التفاؤل، لا تُقنع بعض المحللين الاقتصاديين الذين يقولون باستحالة تحقيق فؤائد للدول المنضوية في البريكس، بسبب الاختلافات في البنى الاقتصادية لمعظم دول المجموعة عن بعضها بعضا، ويقولون بأن الارجنتين دولة مفلسة على سبيل المثال، وإيران لديها مصاعب كبرى، ومصر وإثيوبيا لديهما مشاكل كبيرة. كل هذا صحيح، لكن هنالك أيضا أمثلة تُعطي أملاَ في تجاوز هذه المصاعب، فقد كانت ألمانيا الشرقية دولة متخلفة جدا بالمقارنة بألمانيا الغربية، لكن هذه الأخيرة دعمت الأولى ورفعت من مستواها على كل الأصعدة، الشيء نفسه حدث في دول الاتحاد الأوروبي، حيث كانت الدول الخارجة من عباءة الاتحاد السوفييتي السابق في أوروبا الشرقية، ضعيفة جدا ولديها أزمات كبيرة في كل الأصعدة ومنها الجانب الاقتصادي. لكنها اليوم وفي ظل الاتحاد الاوروبي الذي قام بضخ استثمارات كبيرة فيها، قد توازنت اأمور ونهض بها إلى مستويات جيدة جدا. وهو ما سيعمل عليه تجمع بريكس لرفع مستويات الدول الضعيفة، التي جرى ضمها مؤخرا مثل مصر وإثيوبيا، اللتين تعانيان من مشاكل حاليا.
إن الآمال مُعلقة على مجموعة بريكس في أن تُعطي صوتا لمن لا صوت له، وخاصة تلك الدول التي لم تعد راضية عن المؤسسات المالية العالمية التي يسيطر عليها الغرب. كما أنه إذا استمر في الاندماج والتكتل وتوحيد وجهات النظر، والابتعاد نوعا ما عن القضايا السياسية الخلافية، فيمكن أن تنجح محاولاته في أن يكون البديل، أو الرديف في الاقتصاد العالمي. كما أن أغلب الدول التي ترغب في الانضمام إليه، لديها العامل الاقتصادي هو الأساس، وأن هذه الكتلة من دول كبرى مهمة مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا وجنوب افريقيا تشكل حافزا لها.
إن ما جرى في قمة بريكس الأخيرة إن دل على شيء فإنما يدل على إعادة هندسة النظام العالمي الجديد على المستوى الاقتصادي، وهي مؤشرات أولية إلى نهاية العالم القديم، الذي بُني على معاهدة عام 1944 التي ربطت الدولار بالذهب، ومن ثم اتفاقية البترودولار عام 1970-1971. كما جرى بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، ومن ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ولادة الأقطاب الاقتصاديين الكبار، وانتقال الثورة الصناعية إلى المربع الآسيوي بدول ناهضة اقتصاديا. إذن هذا التجمع الخماسي الذي توسع ليصبح أحد عشر عضوا، لا شك في أنه يعيد تصميم النظام العالمي من أجل إرساء قاعدة اقتصادية دولية جديدة، تبعد الهيمنة الأمريكية عن الاقتصاد الدولي والمؤسسات المالية العالمية. وإذا ما نجح هذا التجمع في اعتماد العملات المحلية، فإنه سيشكل نوعا من الضغط على قوة الدولار، بمعنى أنه سيخفّض الطلب عليه وهذا سيقلل من قوته ومن قيمته تدريجيا. وستكون هذه لعبة ضغط اقتصادي في ظروف حساسة جدا تشهدها أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن أوروبا تمر بأصعب أزمة بسبب الحرب في أوكرانيا، إلى جانب الوضع الهش للمؤسسات الأمريكية. ومع ذلك واهم من يظن بأن كلا من واشنطن وبروكسل لن تكون لهما ردة فعل، ستكون ردة فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تجميع قواهما وتحشيد حلفاء جدد. وللأسف هذا سيعزز من التناحر الدولي والمواجهة على أكثر من صعيد، والتي بدأت في أوكرانيا وستستمر وتأخذ وجوهاَ أخرى.
إن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تُراهن على أن الخلافات الداخلية في مجموعة بريكس، سوف تعيقها عن التصدي للهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، وستحاول التقليل من هذا التطور، لكن عمليا عندما تتم إضافة هذه الدول الجديدة التي تمثل كتلا بشرية كبيرة، وقوى اقتصادية مهمة، وعندما تتكلم عن الحد من هيمنة الدولار، فإن ذلك لا يعني أن الدولار سينتهي، لكنه إعلان مهم عن بداية هذا المسار. إذن العالم تغير والولايات المتحدة ستدرك عاجلا أم آجلا أن هذا العالم قد تغير، ولا بد من تغيير قواعد الحوكمة إن كان بالنسبة للمؤسسات المالية العالمية، أو بالنسبة لمنظمة الأمم المتحدة كذلك.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية