من خيام الذاكرة .
محمد السعدي
بغية عدم الإخلال بالتسلسل الزمني للأحداث التي أستلّها من ذاكرتي، أودّ بداية أن أقول إني أثبّتُ هنا ما ستأتي تفاصيله لاحقاً، وهو من ضمن الأمور التي ذكرتها في مقدمتي لهذا الكتاب، اعتذاراً عن التكرار.
وصلتُ إلى الشام يوم 15 آب عام 1988 قادماً من العاصمة الإيرانية (طهران) بعد معاناة قاسية وخوف مرتقب من مستقبل مجهول مردّه الأوضاع غير الطبيعية داخلية وخارجية، وواحدة من أسبابه ذروة لهيب الحرب بين الجارتين الإسلاميتين العدوتين إيران والعراق، حيث الطيران العراقي يحلق يومياً في سماء طهران ليرمي حمم قذائفه من نوافذ طائرات (سوبر أيتندار) الفرنسية المميزة، والتي منحتها حكومة (شاراك) إلى العراق لتنهي بها الحرب من خلال الاستهداف الدقيق لحركة السفن النفطية في ميناء بندر عباس ومصفى عبدان والذي يعدّ أهم مرفق حيوي اقتصادي لإيران، مما شلت الحركة به تماماً ليتجرع الإمام الخميني جرعة السم الشهيرة.
وصلتُ إلى العاصمة طهران في ربيع 1988 بعد أن نجوتُ بأعجوبة من جائحة «الأنفال» التي اجتاحت كل مقراتنا ووجودنا ووديان تواجدنا والأشجار والقرى التي كنا نحتمي بها كمقاتلين «بيشمرگة» شيوعيين وجلاليين وبرزانيين وحسكيين وباسوكيين. سكنتُ في زقاق ضيق في شارع ناصر خسرو الشهير في بيت كبير ذي طراز فارسي قديم مع الشهيد سامي حركات، وعملت بمطعم ليل نهار في شارع (كوجه مروي) لسدّ رمق الجوع وضروريات الحياة المتواضعة. الشارع الذي يكتظ بحشود من العراقيين بكل ألوانهم وانتماءاتهم ونشاطاتهم السياسية وقصصهم الاجتماعية الغريبة وطرق تزوير الوثائق والمستمسكات العراقية وبدون استثناء، بثّ الإشاعات تسبق واقعهم اليومي عن بلدهم البعيد العراق إلى حدّ التجسس على بعضهم وبين صفوفهم، وفي وسط طبيعة علاقتهم تنتشر أساليب التجسس على بعضهم. كنت في ظرف صعب ما عليك إلّا أن تنجو من تلك الأجواء وتداعياتها الخطيرة، وبعد أن نجوت بأعجوبة من عملية «الأنفال» -التي ما زلت أحمل أضرارها النفسية والجسدية- وخوفاً من يُكشف أمري للسلطات الإيرانية بعد أن ادّعيت في أول نقطة حدودية أني جندي هارب من الحرب ومن مدينة الكاظمية واسمي علي. إذن إذا كشف أمري في أنني شيوعي كنت مقاتلاً في الجبل، فهذه وحدها تهمة تؤدي بك إلى التهلكة الحتمية.
بذلت جهداً مضنياً من أجل أن أخرج من طهران سالماً بمعونة أصدقاء ورفاق وأحبة رغم البحبوحة المادية في ترتيب يوميات حياتي. في دمشق الوضع يختلف سياسياً حيث الرفاق والحزب والعمل العلني والبوح باسمك الصريح وانتمائك السياسي حيث لا خوف ولا تردّد في الإعلان عن مواقفك. في يومها كان الجو السياسي للشيوعيين مشحوناً بالخلافات والانتقامات والمقاطعات لحدّ العظم، مما لفت انتباه القوى والأحزاب الأخرى اتهامات بالعمالة للنظام العراقي والمخابرات الإسرائيلية بالجملة بدون وازع أخلاقي ولا إنساني ولا أسانيد ولا احترام للتاريخ الطويل المعمّد بالتضحيات، حيث من يختلف أو يبدي وجهة نظر عليه أن يضع أمامه أن هنالك حملة شرسة وقاسية لتسقيطه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً في تميز واضح لنا نحن الشيوعيين، وبين صفوفنا ببغاوات يقلدون الأصوات رغم نشازها في التعبير، يعني أية إشاعة تطلق على رفيق حتى وأن كانت للانتقام فأنها
تُتبنى رغم المعرفة المسبقة أنها إشاعة لتحطيم رفيق جزاء موقف أو اعتراض. الحقيقة هي العمود الفقري للتاريخ وأن طمست مؤقتاً لكنها ستظهر من جديد أكثر صرامة ووضوحاً.
في اليوم الأول الذي وطئت به قدماي الحافيتان أرض دمشق الحبيبة شعرت بالأمان رغم وضعي الصعب حيث لا رؤيا لأفق قريب. سكنت مع ابن قريتي وصديق الطفولة والرفقة الدكتور عزيز الشيباني في ملحق متواضع لبيت في حارة ركن الدين. نتقاسم حنين الشوق إلى قريتنا وبيوتها وذكرياتها بيتاً فبيتاً لعلها تشحذ ما تبقى من ذكرى صدئة وأمل للقاء وصدىً صوت مخنوق عبر أسلاك التلفونات المخترقة. رغم كل المحاولات في الحصول على عمل يسد ولو نزراً يسيراً من رمق العيش الصعب، لكنها كل المحاولات كانت تتلاشى بقدوم الأيام، ولم يبق أمامك إلّا القراءة واللقاء بالرفاق والأصدقاء ومقهى الروضة بمثابة وكالة أنباء عن أخبار العراق والعراقيين والذي يتصدر نشراتها الرئيسية لبيد (أبو حالوب) المقيم العتيق في مقهى الروضة.
في تلك الرحلة والإقامة لا يعكر مزاجك ويحزنك إلّا صراع الرفاق وقساوة الأساليب ونذالة الاتهامات والمقاطعة الاجتماعية ضدّ من بات خارج الصندوق المقدس، ولم يجرؤ أحد إلى الآن بفتح ذلك الصندوق الأسود وما كان يخزنه من إجحاف وتشويهات وتعديات ليعاد إلى ما كان على عهده. لأجل لمّ الشمل والذي بات متشظياً وسط أكوام من ميليشيات وأحزاب إسلام سياسي ودين متخلف. وفي يوم ما من عام 1989 وفي ظهيرة دمشقية كنت نازلاً مشياً على القدمين من ركن الدين إلى مقهى الروضة في الصالحية صادفني في الطريق غضبان السعد الشيوعي والعسكري المرموق أيام ثورة تموز، وبعد السلام والكلام والسؤال عن يوميات الشهيد خالي خزعل السعدي في معرض تجميع معلومات عنه لكتاب قادم. حدثني بألم عن تفاصيل يوميات حياته والأساليب التي عومل بها لا لشيء إلّا لإبدائِه بعض الملاحظات عن طبيعة التنظيم والأداء الحزبي والتعامل الفظ مع حشود من الرفاق.
كنت فقيراً بأدواتي الأولى في تتبع مسيرة حياتي، حيث ضيّعت فرصاً كثيرة بسبب خجلي الدائم، كانت مسيرتي قاحلة ومليئة بالألغام، وكنت في بداياتي أكتب لنفسي في فضاءات قرية الهويدر على شريعة النهر وفوق السطح وكهوف الجبال، وأنا -وليس هذا تفرداً أو تميزاً- أكتب عن الاشياء التي عشتها وخضت تجاربها. يقول جوستاف فلوبير في روايته مدام بوفاري: «أنا هي بوفاري». وهذا هنري ميللر ورواياته كما أراه فيّ. أكتب بدون تردد ولا خوف رغم السد العالي للتيار المنافي للحقائق والوقائع وهناك نفر ورغم تجاربه الطويلة في الحياة والسياسة لكنه لا يمتلك تلك المبادرة باتجاه روح التغير وبناء الإنسان.
Alla reaktioner:
علي جواد, Ibtisam Maktoof och 37 andra