قراءة في كتاب .
صباح أبو مصطفى الزهيري .
أن تكون مبدئيا وواقعيا في هذا الزمان أمر صعب ومحض خيال ,وأذ تجد من يعترف بأخطائه ويدونها على علاتها فذلك كلام آخر وزمان مضى , وأن تتدرج في فكرك من شمولية العقيدة لتصل الى فضاء الأنسانية الرحب فهذه من روحانيات زمن الندرة, دعوني أقدم لكم من اسميته الشيوعي النبيل ألسيد محمد السعدي , بعد صدور كتابه الثالث ( أوراق صفراء من الصندوق الأسود ), ولقب النبل هذا سبق وأن أطلقته على المرحومين سعدي يوسف ومظفر النواب.
كان ثمة في الأحزاب الشمولية الحاكمة او المعارضة مثقفون مبدئيون تحكمهم معايير اخلاقية فطرية فلم ينجرفوا في فتنة الانتهازية وغواياتها التي استحكمت بحلقات الثقافة العراقية ، وحين حلت دولة الفوضى محل الدولة الشمولية هان عليهم الانخراط في موجة التحول الايديولوجي والطائفي والقومي التي خلعت إزار كل خجل وتردد وانغمرت في نظام جديد يشجع الانتهازية والوصولية من اجل كسب قاعدة محلية أفقدتها إياه سنوات المنافي الطويلة فتغاضى عن كل الولاءات والمخازي الثقافية السالفة لصالح ولاء وحيد هو ولاء الطائفة ، من الانصاف القول ان هؤلاء الذين حافظوا على مبدأيتهم الفكرية ومن مختلف النحل الأيديولوجية التقليدية القديمة وان قل عددهم قد لاذوا بالصمت او الاعتكاف شأنهم شأن قلة المستقلين المهمشين تاريخيا ، تعففا عن الخوض في مستنقع الوصولية الذي يبدو انه كان مربحا بل ومربحا بإفراط حتى للذين يفتقدون اية كفاءة او تكوين تعليمي معقول , ألا ان صاحبنا السيد محمد السعدي السويدي الجنسية والهويدراوي ألأصل ظل يتكلم ويعترف ويفضح انتهازية القيادات التي بات يسيل لعابها أمام المناصب والأمتيازات والرواتب والرتب, ليعكس لنا صورة المناضل كما يجب أن تكون.
بعد أن ساهم بدمه وأعصابه وفكره بإغناء الثقافة الإنسانية ,هاجر الى بلاد الغربة واحد من أعظم وأكفأ مناضلي العراق. لقد شرفني عدة مرات برسائل أبدى فيها إعجابه بالكثير مما أكتبه وكثيرا ما كنت أعتد أمام نفسي وأمام أصدقائي بهذا التشريف. لم يكل الرجل يوما ولم يتراجع جهده وعطاءه الفكري حتى كأنه كان في سباق مع نفسه ومع الزمن.
رغم إني لم أكن شيوعيا ولا حتى ماركسيا إلا إنني ألتقي مع هذا المهاجر النبيل على محبة العراق والإنسان وأعده أن يبقى موجودا بيننا وفي كل حواراتنا عن الوطنية ومعناها الحقيقي, ويبقى قلمه ينبض في أقلامنا, ولازال ذكره يرد في مجالسنا الأجتماعية والثقافية.
وإعلم ايها الأكرم إبن الأكارم، إن مواقف الرجال لايقدّرها ولا يحفظها ولا يجاهر بها الإّ الناس الشجعان الصادقون أصحاب القيم والاخلاق والشرف الرفيع الذين لاتلومهم في الحق لومة لائم .
لقد قام الدكتور عبد الحسين الخفاجي مشكورا بأيصال نسخه من كتابكم أعلاه وقد كنت اترقبه . وقد وعدته بقرائته والتعليق عليه. لالشيء وانما لاننا يجب ان نملك الجرأة للأعتراف بالحقيقة الموضوعية المرة، وان نقر بان احزاب اليسار في بلدنا مريضه وتحتاج الى العمل الجراحي . ولأنني لازلت متأثرا بقرائتي لأصداركم السابق (سجين الشعبة الخامسة) وكتاب (بيني وبين نفسي) ومعجبا بصراحتكم وموضوعيتكم الواردة فيهما , ولما كانت هناك قناعة توثقت لدى اجيالنا العلمانية واليسارية بأنه لا يمكن الاعتماد على الدراويش من اصحاب المصالح الخاصة او الجهلة . وان من يقوم بهذه العملية الجراحية الكبرى هم المخلصون للمباديء بما سيحتم تطور هذه الأجيال واسترجاع دورها القيادي في المجتمع العراقي, نرفع لك القبعة.
يشرح صديقنا في كتبه الثلاث تفاصيل ويوميات النضال المر في فترة قاسية مثلت جزءا مهما من أزمة أحزاب الحركة الوطنية العراقية..
يقول فيودور دوستوفيسكي ( أنا أنطق بالذي أنت لاتجرأ التفكير به ) , هذه صفة الكتب الذي أصدرها نبيلنا السعدي.
أن ذوي الأصول الكريمة يزدادون رفقًا ونبلاً كلما ترقوا في سلم الحياة. وتجدهم يحرصون على أن يقوا من هم أقل تجربة منهم أشواك الرحلة وغبارها. المؤسف ان فرصة السيطرة والنفوذ قلما تتاح لهؤلاء. وطالما كانت الأحجار الكريمة نادرة في هذا العالم، لذا هي ثمينة عالية القيمة.
لا يكون المثقف مؤثراً إلا إذا كان ملتزماً بالتعبير عن حركة التاريخ، ومضطلعاً بمهمة التنوير، ومستقلاً عن الطمع والهوى قدر الإمكان. ان الذي يحترف السياسة ويخوض غمارها , فأنه يكون لأجل تحقيق هدف , هذا الهدف لا يختلف اثنان في سموه وأهميته ونبله , سواء كان تحقيق الاستقلال أو لأجل بناء الدولة أو لتعزيز مكتسبات وانجازات ثورية كانت او ديمقراطية او وطنية أو حضارية من مبادئ متفق عليها كتحقيق العدالة الاجتماعية أو حماية مكتسبات الأمة أو التنمية الاقتصادية ..لكن ليس كل سياسي يرفع شعار طموح وهادف يكسب به تعاطف الجماهير موسعا به قاعدته النضالية هو سياسي ذو مبدأ , فالمبدأ ليس شعار يرفع ولا بيان يتلى , بل هو نضال مستميت , وهذا ما يميز صاحبنا الهويدراوي السياسي المبدئي عن السياسي الانتهازي الذي يرفع المبدأ كشعار يتكسب منه ويبتز ويساوم لأجل تحقيق طموحات أنوية.
ان المعركة اليوم هي معركة الدفاع عن المجتمع واستقراره وتنميته وحريته وحداثته، ولذلك فإن الذي يتخلف عن الوقوف مع الوطن ومصلحته يكون قد تخلف عن أداء رسالته. والمثقف الذي لا يعلو فوق ذاته فيرفض الخضوع لحسابات الربح والخسارة ولا يمتلك القدرة على تصحيح مواقفه في ضوء المراجعة والتقييم، هو مثقف لا يحتاجه المجتمع في الوقت الحاضر.
الخالدان سعدي يوسف ومظفر النواب سجلا كلمتيهما ومشيا …مثلهما فعل محمد السعدي ….أشهر وطنيته وأعلاها على كل خلافات وعذابات ومرارات الصراعات مع منافسيه في الوطن ومع أنتهازيي التنظيم …لم يقبل على الأصطفاف مع الغازي ولا الجلوس في مجلس حكمه …وفي زمن التفاهة، وفي أجواء التردّي والإحباط والانكسارات ، تسقط المبدئية وتنتصر الانتهازية وتتفشى النفعية، من المؤسف أن التفاهة قد انتقلت عدواها إلى بعض المحسوبين على الثقافة، من الذين يفترض أن يكونوا نموذجاً للمبدئية ضد حسابات الربح والخسارة، وبدلاً من ذلك نكسوا رايات المبدئية، ورفعوا رايات الانتهازية التي لا تستحي من شيء، وللتغطية على ذلك روجوا لخطاباتهم التافهة باسم (الواقعية).
من الخطأ الاعتقاد أن النظام يصنع السياسي الانتهازي ليواجه به السياسي المبدئي ,أو ليشتت المناضلين ويفرقهم عنه كوسيلة حصانة أو حماية ذاتية له , ان الانتهازية جزء من الطبيعة البشرية , يقتصر دور النظام على الاغواء فقط والتزيين والمراودة على النفس لأنه هناك دوما قابلية نفسية للخيانة وللإثراء غير المشروع وللمناصب العليا ولبيع الضمير في سوق النخاسة السياسية . لقد عانت الحركة الوطنية العراقية بأحزابها المتعددة من عدة أمراض عوقتها وشوهت ملامحها وحالت دون تبلورها ولا تزال تؤخر من تفاعلها لإنتاج الصيغة المنشودة للعمل المؤسساتي الوطني المشترك
سلاما على البشر الحقيقين الذين يخبرونا ان ثمة ضوءا خافتا في عتمة الحياة ويجعلوننا نحلم ان هذا الضوء سيصبح يوما ساطعا, وتصبح الأرض مكانا صالحا للحياة.
وددت ان اشكرك واتمنى لك والعائلة الكريمة الصحه والعافية والعمر المديد.