متروكات تودوروف من السرد
بحث تودوروف في عجائبية السرد القديم واهتم بنسق التضمين، لكن منظوره بقي مرتهنا بالشخصية بوصفها المسرود البدائي البسيط والسليم والطبيعي، ومكانه برأيه في ملحمة «الأوديسة» وتحديدا في غناء الحوريات وما فيه من استعارات. ولم يذكر ملحمة جلجامش التي سبقت الأوديسة في استعمال التضمين في شكل نظامي، به تأثرت الملاحم الهومرية وسائر المرويات اللاحقة في آداب الأمم المجاورة، ومنها حكايات ألف ليلة وليلة.
وافترض تودوروف أن الشخصية هي السبب في هذا التكرار بوصفها أهم من الحدث فـ(كلمة شخصية تدل على شيء مختلف تماما عن انسجام نفسي، أو وصف للطباع. يمكن ان ننظر إلى هذا التقليد الذي تعد الأوديسة والديكامرون وألف ليلة وليلة والمخطوط، الذي عثر عليه في سرقسطة بعض أشهر تمظهراته على أنه حالة أنموذجية من اللانفسوية الأدبية) وعزا السبب إلى خلو شخصيات ألف ليلة وليلة من التحليل الداخلي للطباع والحالات النفسية. ومثّل بحكاية السندباد البحري، وفيها تكون المسافة ضئيلة بين الملمح النفسي والحدث، وأن ثنائية سبب/ نتيجة تظهر لكن على صعيد مختلف سماه تودوروف علم النفس المضاد.
وهذا التوصيف هو على خلاف القاعدة التي فيها الشخصية والحدث مرتبطان ارتباطا وثيقا بالتحبيك، لكن تودوروف عد الشخصية مركزية وهي تتكرر، وفي كل مرة تروي قصة جديدة بعبارة (تحكي شهرزاد، جعفر يحكي، الخياط يحكي، المزين يحكي). والتضمين هنا هو التكنيك الذي هو جزء من التقليد وليس العكس، ومن ثم يكون التكرار تقليدا سارت عليه مرويات العصور الوسطى ومنها المخطوط الذي عثر عليه في سرقسطة وقبله سارت عليه حكايات ألف ليلة وليلة. هذا إن لم يكن المخطوط نفسه آتيا من ألف ليلة وليلة، وهو ما انتبه إليه تودوروف وإن بشكل عرضي فلم يصرح به في المتن، بل أشار بشكل عابر إلى أن تكرار أسماء زبيدة وأمينة والثرثار والمزين في المخطوط يعني، أن حكايات ألف ليلة وليلة (ليست بكل تأكيد المصدر الوحيد للمخطوط) ولم يقل ما تلك المصادر، وبالتأكيد لو ذكرها لوقف عند المرويات التراثية العربية غير انه ابتسر كلامه قصدا أو دون قصد.
وتنطوي مقارنة تودوروف بين حكايات ألف ليلة وليلة، التي وصفها بالآلة العجيبة، والمخطوط على رغبة في تأكيد ما سماه (خصيصة المسرود) لا في عموم الحكايات القديمة، بل في حكايات ألف ليلة وليلة فقط، لأنها في رأيه الوحيدة التي فيها يتضح الإفصاح بالثرثرة ـ الفضول، الحياة ـ الموت، فقال: (تتلقى عملية الإفصاح في الحكاية العربية تأويلا لا يدع مجالا للشك من حيث أهميته. وإذا كانت كل الشخصيات لا تكف عن رواية القصص، فذلك لان هذا الفعل قد تلقى تكريسا فائقا: الحكي يعادل الحياة والمثال الأوضح هو مثال شهرزاد نفسها، التي تعيش فقط في حال استطاعت مواصلة حكاية القصص، لكن هذا الوضع يتكرر باستمرار داخل الحكاية) ولا شك في أن الشخصية لا تشكل لوحدها نظاما، إنما هي جزء من النظام الذي يشكله تاريخ من الاشتغال السردي، واستمر العمل عليه في العصور الوسطى، بدءا من قصص الديكامرون، مرورا بالعصر الحديث ووصولا إلى زمننا المعاصر بقصص بورخيس وغيره.
ولأن تودوروف اعتبر التضمين تكنيكا وليس تقليدا، استغرب ما وجده عند روائيي القرن التاسع عشر من عناية بالفكرة والتأمل فيها (على طريقة البحث عن الغرال) وأن المسرود يرتكز بصورة دائمة على البحث عن قضية مطلقة وغائبة، تتمثل في شبح يمر دون أن يدري به أحد.
وبدلا من أن يوسع تودوروف مجال تمثيلاته من السرد العربي القديم كي يكون توصيفه للمسرود وفاعلية تكراره أكثر دقة وعمقا، فإنه راح يبحث عن مثال آخر غير ألف ليلة وليلة من أدب العصور الوسطى، فوجد (الغرال) في عمل قصصي لكاتب مجهول من القرن الثالث عشر معتمدا على كتاب البرت بوفيليه (دراسات حول البحث عن الغرال) المقدس.
وحلل تودوروف الغرال كمسرود فيه الدال هو مدلول والمعقول محسوس والمغامرة واقعية ورمز لمغامرة أخرى من ناحية لقاء جلعاد ببرسوفال (المقدس بالمدنس) متوصلا إلى أن (المسرود القروسطي يقترب من النمذجة المسيحية ويتمايز عن الكنايات التي اعتدنا عليها) لكن نموذج البحث عن الغرال عرفته رسائل أخوان الصفا وحي بن يقظان لابن طفيل ومنظومة منطق الطير لفريد الدين العطار وقصص المتصوفة وكراماتهم وفيها نجد الأحداث غير المعقولة والعود الأبدي والأضداد واللغة الرمزية في البحث عن الذات الإلهية، ومن ثم يكون المسرود في حالة عود مستمر. فيتأكد التكرار كتقليد عرفه السرد العربي القديم، وفيه تستعمل تكنيكات مختلفة ومنها التضمين. أما تأويل تودوروف البحث عن الغرال بأن الحكاية تَعرف والمؤلف لا يَفهم، فلأن الحكاية لها مؤلف أول هو وحده الذي عرف كيف يجعل التكرار تقليدا فيه السرد يكرر نفسه فلا يعرف ما قبل الحكاية ولا ما بعدها. ولا ننسى أن في هذه المرحلة التاريخية أي في حدود القرن الثالث عشر الميلادي، كانت ترجمة المخطوطات العربية إلى اللغات الأوروبية قائمة فيأتي التضمين لا بشكله الفني وإنما بشكل انتحالي وأحيانا بوقع الحافر على الحافر. ولأن تودوروف اعتبر التضمين تكنيكا وليس تقليدا، استغرب ما وجده عند روائيي القرن التاسع عشر من عناية بالفكرة والتأمل فيها (على طريقة البحث عن الغرال) وأن المسرود يرتكز بصورة دائمة على البحث عن قضية مطلقة وغائبة، تتمثل في شبح يمر دون أن يدري به أحد. وممن أخذ عليه تودوروف هذا المأخذ الروائي الأمريكي هنري جيمس، مبينا أن رواياته غير معروفة في فرنسا، وأن النقاد المعاصرين وإن اتفقوا على تميز أعماله من الناحية التقنية، فإنهم أيضا اتفقوا على نقص الأفكار وغياب الحرارة الإنسانية، وأن موضوعاته قليلة الأهمية وحلل عدة قصص لهنري جيمس مثل (الصورة في السجادة 1896 والسير أدموند أورم 1891 وقصة مود أيفين وقصة حياة امرأة ميتة وقصة مذبح الأموات) وأخذ تودوروف على الإنكليزي جوزيف كونراد ما في روايته (قلب الظلام) من معرفة مستحيلة تجعل قلب الظلام نفسه فارغا. ولا يخفى ما في هذه الآراء من بعض المغالبة للرواية الفرانكفونية، فضلا عما يلحقه النظر الجزئي من ضرر بكلية السرد، التي هي ليست سائبة، بل قائمة على تقاليد راسخة، يتفاوت الكتّاب في توظيفها داخل رواياتهم.
ومثلما تنكر تودوروف لتقاليد السرد القديم، خاصة تقليد التكرار فلم يذكر أيا من المرويات التراثية العربية، موجها عنايته للسرد الأوروبي بوصفه صانعا للتكنيكات، فكذلك كان أدوارد سعيد يغالب لصالح الرواية الإنكليزية، واجدا في رواية (قلب الظلام) التي كتبت عام 1899 أنها صنيعة الاستعمار، وأن ما يميز مؤلفها جوزيف كونراد (عن غيره من الكتاب الاستعماريين الذين كانوا معاصرين له هو أنه كان واعيا وعيا ذاتيا حادا لما يفعله لأسباب تعود جزئيا إلى الاستعمار، الذي حوله من المهاجر البولندي إلى موظف لدى النظام الإمبريالي) وهنا نتساءل: أين الإمبريالية قبل ثلاثة قرون فيها كان السرد الأوروبي يضع منظومته الجمالية مفيدا من تقاليد السرد القديم التي وصل أغلبها إليه عن طريق الترجمة، فكان ذلك سببا مهما في نشأة القصة الأوروبية، ثم النوفيلا حتى إذا وصلنا إلى القرن التاسع عشر كانت تلك المنظومة الجمالية قد تعضدت سياسيا وفكريا في الرواية وبشكل لا يمكن إنكاره. لكن يبقى القاسم المشترك بين نقاد الغرب عموما هو الانتصار لثقافة يرونها ذات تراث وما من تراث قبله مكنون أو مستودع إلا في عرق أبيض، وأي توان عن هذا الانتصار يعني ثلبا، أو كما يقول برنارد لويس (إذا اندثرت الثقافة الغربية بالفعل فإن عددا من الأشياء سيندثر معها وستحل محلها أشياء أخرى) وهو يعرف ما هي هذه الأشياء الأخرى التي يخاف الإعلان عنها صراحة. وكيف للثقافة الغربية أن تندثر ودرس الأدب المقارن غرس بقوة فكرة أن الرواية صنيعة أوروبية، وسيستمر هذا الغرس في يناعته ما دام الناقد الغربي وغير الغربي يروج للطباقية، التي تعني أن العلاقة جدلية بين العملية الإمبريالية وعملية المقاومة لها، أو بين القصة العربية والرواية الغربية.