الحالة العراقية تحت مجهر هيئة علماء المسلمين
دأبت هيئة علماء المسلمين في العراق، على رصد الواقع العراقي اليومي من خلال إصدار تقرير دوري، يوثق ما يدور في عموم البلاد من أوضاع سياسية وأمنية واقتصادية وإنسانية. ويمكن القول بأن تقييم الهيئة الوارد في تقاريرها يتصف بالنزاهة بشكل كبير، رغم أنها جهة معارضة للعملية السياسية وللوضع القائم في العراق. ويُعزى هذا الموقف إلى سببين رئيسيين.
الأول هو، ليس للهيئة طموحات سياسية متعلقة بمزاحمة الآخرين للوصول إلى السلطة، وبالتالي هي ليست معنية بتشويه الحقائق وإبرازها بشكل مغاير للواقع. كما أنها ليست جهة طائفية تسعى لشيطنة الحاكمين من أجل التسقيط السياسي، فقط لأنهم من الطائفة الأخرى.
أما السبب الثاني، فهو أن الهيئة هيئة شرعية وليست هيئة دينية، بمعنى أنها لو كانت هيئة دينية لاقتصر نشاطها على الأمور الدينية وتركت الأمور الدنيوية، لكنها هيئة شرعية واجباتها تغطية الجانبين الديني والدنيوي، بما فيها مشاغل الناس والشأن العام، وهو ما ميزها عن الآخرين الذين كانوا يتنقلون بين الصفتين حسب المصالح والأهواء، فهي بالإضافة إلى قيامها بالواجبات الدعوية والثقافية والإرشادية والإغاثية، نجد أن صوتها يعلو بشكل واضح وجهوري في الحقل السياسي أيضا، والسبب هو عدم وجود من يتولى القيام بذلك لفضح مواقف الاحتلال والعملية السياسية، فقد ولّى زمن كانت فيه السياسة والعمل السياسي مهنة ثقافية أو فعلا اجتماعيا، ينهض به مثقفون ذوو مشروع للتغيير، إصلاحي أو ثوري، وباتت السياسة في العراق منشغلة بمخاطبة الناس من أجل التحشيد والتجييش، وقضاء أعمال مرحلية وليست منهجية.
زعماء العملية السياسية في العراق يثبتون يوميا، أنهم تجار في السراب والكوارث والمساومات في حقوق الإنسان، يقدمونها إلى شعبهم على أنها إنجازات
ومن هنا تأتي التقارير الدورية لهيئة علماء المسلمين في العراق، لتفتح كوة في جدار التعتيم الإعلامي، الذي تمارسه جهات عربية وإقليمية ودولية على القضية العراقية، ولتوضح بشكل شفاف طبيعة الزيف والحقائق المفتعلة على أرض الواقع، فقد تضمن التقرير الصادر عن الهيئة في الحادي عشر من شهر سبتمبر/أيلول الجاري الحقائق التالية: أولا، إن الضجة القائمة اليوم بخصوص انتخابات مجالس المحافظات، ليس لها أية علاقة بطبيعة المهام الملقاة عليها في النهوض بالواقع الخدمي والاجتماعي للمواطنين، بل الصراع الأكبر بين الأحزاب للفوز بها، قائم على أساس أن هذه المجالس مجرد وسيلة من وسائل الكسب المادي غير المشروع، وتثبيت الهيمنة والتسلط على رقاب المواطنين. ثانيا، إن الاحتلال الأمريكي ما زال قائما على أرض الواقع ماديا ومعنويا، وأن التفاخر بالسيادة ووجود دولة وسلطات منتخبة مجرد محض خيال، والدليل على ذلك ما شهده الواقع العراقي من تحركات لقوات أمريكية في المدن والبلدات العراقية وعلى الحدود، عجزت هذه الدولة والسلطات عن فهم مغزاها، أو إعطاء تفسير مبين عن غاياتها وأهدافها، بل انتابهم الخوف منها وذهبوا لوضع قواتهم وعناصر ميليشياتهم في حالة إنذار قصوى، ظنا منهم أنهم هم المستهدفون من هذه التحركات. ثالثا، إن الانهيار الأمني الواسع النطاق الذي حصل في كركوك مؤخرا، هو دليل ساطع على أن ما يسمونه استقرارا في العراق، إنما هو استقرار مخادع سُفكت فيه دماء ودُمرت فيه ممتلكات عامة وخاصة، وكل ذلك كان دافعه التزاحم بالقوة على النفوذ وتعزيز الحدود الطائفية والعرقية، من دون أدنى اعتبار لما يشكله ذلك من تهديد للسلم والأمن المجتمعي. رابعا، إن قانون العفو العام ما زال منذ عام 2016 وحتى اليوم حبيس المساومات السياسية. وعلى الرغم من تصويت مجلس الوزراء الحالي على التعديلات التي أجريت عليه، لكن الكتل المُمثلة في البرلمان، ما زالت حتى الساعة تحاول الاستثمار فيه ماديا ومعنويا، وتبتز بشكل فاضح الأطراف التي تدعي أن حواضنها هي المستفيدة منه، وبذلك تصبح المصلحة العامة مجرد لعبة في ساحة المصالح الحزبية والسياسية.
ويستمر التقرير في فضح طبيعة اللعبة السياسية القذرة في العراق فيشير خامسا، إلى أن التغييب والإخفاء القسري ما زال ورقة مُهملة في الأجندات المحلية والدولية، فعلى الرغم من أن المنظمات الدولية تشير في بيانتها إلى استمرارية هذه الحالة، المتقاطعة تماما مع كل الشرائع الدولية المختصة بحقوق الإنسان، لكن انعدام الإجراءات العملية بهذا الملف ما زال ساريا، بل الأنكى من ذلك أن بعض المتهمين بملف التغييب يتم التغاضي عن جرائمهم، في اللقاءات التي تتم بينهم وبين الجهات التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان. سادسا، ما زال التخبط هو سيد الموقف في سياسات وزارة الهجرة في العراق، ففي الوقت الذي تعلن فيه عن إغلاق ملف النزوح والتهجير، تعلن لجنة الهجرة البرلمانية أن منازل النازحين غير صالحة للعيش، وكذلك المدن التي نزحوا منها، ما يعطي انطباعا واضحا بأن الوزارة تبحث عن إنجاز غير واقعي على حساب المواطنين. كما كشفت تقارير عن سرقات طالت المُنح المالية للاجئين والنازحين، والخيم وسلال الغذاء المخصصة لهم. سابعا، أن البشرى السارة التي أعلن عنها رئيس الحكومة، بإعادة معدات مصفى بيجي المسروقة منذ ست سنوات، من دون تقديم السُراق إلى المحاكم المختصة، أو إعلان أسمائهم والجهات التي ينتمون إليها، إنما هي رغبة منه في تجهيل الناس، ثم تنمية شخصية محبوبة يلصقها على ذاته. ثامنا، إن عوائد مشروع الربط السككي مع إيران ستكون عائداته لصالح إيران دون العراق، حيث سيجعل من العراق ممرا للبضائع الإيرانية والزوار القادمين منها، ويعطل جزءا كبيرا من مشروع ميناء الفاو. تاسعا، إن التجاوز على الممتلكات العامة من قبل بعض المواطنين، لا يوجد له ما يبرره، لكن قيام السلطات بإزالة تلك التجاوزات من دون تقديم البديل للمتجاوزين، إنما يشير إلى عدم الاهتمام بالطبقات المسحوقة من الناس. عاشرا، إن مؤتمر نداء الأقصى الذي عُقد في مدينة كربلاء في شهر أغسطس/آب الماضي، إنما هدفه الأساسي الاستثمار في القضية الفلسطينية من أجل التحشيد تحت راية طهران.
إن التقارير الدورية الصادرة عن هيئة علماء المسلمين في العراق، تلقي حزمة ضوء ساطع على طبيعة النظام السياسي القائم، وعلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي والأمني والسياسي والإنساني في البلاد، وأنها تثبت بالدليل الواضح أن النظام السياسي يقف في طريق مسدود سياسيا، وأنه عاجز تماما عن تقديم برامج رؤيوية حقيقية للمجتمع. كما أن فشله في بناء الدولة الوطنية القائمة على أساس العقد الاجتماعي، والأسس الدستورية، وحاكمية القانون، والحقوق المدنية والسياسية، أدى إلى فشل آخر وهو العجز عن بناء نظام المواطنة كنظام اجتماعي سياسي. وبذلك صنع النظام السياسي القائم مهنة تحدي الأعراف السياسية والجاذبية السياسية. لكن بات من الصعب على أي زعيم حزبي أو طائفي أو ميليشياوي في هذا النظام، الاختباء من العدد الهائل من النكبات التي يتعرض لها المواطن العراقي، وإذا قال نابليون ذات مرة بأن القائد تاجر في الأمل، فإن زعماء العملية السياسية في العراق يثبتون يوميا، أنهم تجار في السراب والكوارث والمساومات في حقوق الإنسان، يقدمونها إلى شعبهم على أنها إنجازات، لكن ذاكرة الشعوب ليست الإسفنج المبارك لفقدان الذاكرة.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية