الشاعر الذي لم يشْكُ جرحَه
مثلما اختُصر الأصمعي عند جيل السوشيال ميديا بقصيدة «صوت صفير البلبل» وارتبطت ماري أنطوانيت بإجابتها «إذا لم يجدوا الخبز، فليأكلوا البسكويت» لمن قالوا لها إن الشعب لا يجد خبزا يأكله، كذلك اختُزِل كريم العراقي بالبيت الذي لطالما ردده:
لا تشك للناس جرحا أنت صاحبه … لا يؤلم الجرح إلا من به ألم
والحقيقة التي لا تقبل شكا هي: لا الأصمعي صاحب القصيدة الرديئة صوت صفير البلبل، ولا ماري أنطوانيت قالت تلك الجملة المتغطرسة، ولا البيت الذي تناقلته الألسنة لكريم العراقي. وكم هي مؤلمة هذه الاستهانة أن نختصر شاعرا غنائيا في قامة كريم العراقي في بيت، لا لسبب سوى أنه ضمنه قصيدته، وردده في لقاءاته، وننسى عشرات القصائد ومئات الأغاني التي سمعناها بأصوات كاظم الساهر وفؤاد سالم وسعدون جابر وأصالة وصابر الرباعي وماجد المهندس.
وما زلت كلما ردد أحد أمامي هذا البيت ينتابني شعور بالضيق، لأني عرفت كريم العراقي عن قرب، جمعني به القدر في محطات عديدة جعلتني أرى من الظلم أن نوجزه في بيت ليس له، بل نبه بنفسه في بداية قصيدته بأنه ليس من شعره حين قال:
بيتٌ من الشعرِ أذهلني بروعته … توسدَ القلبَ مذْ أن خطهُ القلمُ
وحتى أُنصف هذا المبدع، ووفاء لصداقة ربطتنا، أروي ما لامسته عن قرب من معرفتي به، معترفة في البداية أن صوت كاظم الساهر كان مدخلي إلى التعرف على شعر كريم بشقيه الفصيح والعامي. فأنا كنت ولا أزال إلى حد ما أحب الطرب باللغة الفصحى، ولا تطربني العامية إلا من أصوات قليلة. وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي وقتما كنت أحضر الماجستير في القاهرة عن شعر نزار قباني اشتهرت أغنية «مدرسة الحب» لكاظم الساهر، ولأني نزارية الهوى صرت أتتبع قصائد نزار قباني التي غناها كاظم، فكان لا بد وأنا أسمع ألبومات الساهر أن تضع الأقدار في طريقي شعر كريم العراقي، حتى أن بعض القصائد مثل «بغداد» و«ليلى» كانت تشتبه عليّ، فأحسبها للسماع الأول لنزار، فكريم تلميذ المدرسة النزارية السهلة الممتنعة بامتياز. فنشأت حينذاك ألفة بيني وبين أشعار كريم بصوت كاظم، وبدأت أحبها وأقتنيها. وفي أول لقاء بيني وبين كريم العراقي في برنامجي «نلتقي مع بروين» في منتصف الألفية الثانية كان أغلب حديثنا في الكواليس عن القاسم الأكبر بيننا، أي حبنا لنزار قباني، وحين حدثته عن لقائي بنزار في بيته اللندني والحوار الذي أجريته معه قال لي: «أنت محظوظة إني أغبطك على ذلك، يا ليتني التقيته أو أن لي صورة معه». وأراني يومها رسالة نزار قباني إليه وكان يحملها في جيبه، والتي انتشرت بعد ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي بعد وفاته. أثناء اللقاء سألته على الهواء هل أنت نزاري؟ معتقدة أنني أستفزه بهذا السؤال لكن فاجأني بسروره بهذه التهمة إن كانت كذلك.
وأشد ما حز في نفسي أنه كان بيني وبين كريم العراقي موعد لم يتم، فقد كنا على اتفاق بمجرد أن يتحسن أن يقيم في بيتي أمسية شعرية ضمن النشاطات التي كنت أقيمها تحت مسمى بيت الثقافة، لكن قدر الله كان أسرع فمضى إلى رحمته.
فهو يعرف جيدا إمكاناته وملعبه، حيث أعطى القصيدة ذات النفس النزاري خصوصية عراقية، وقرب الشعر الفصيح من الناس فتقبلوه كما تقبلوا قصائده الشعبية. وقد حاورت كريم العراقي تلفزيونيا ثلاث مرات الأولى في برنامجي «نلتقي مع بروين» والثانية في برنامج «حلو الكلام» والثالثة في دورة جديدة من«نلتقي» فكان في كل استضافة – كما كتبت عنه سابقا ـ متجددا، متقنا للعبة التلفزيونية، قادرا على صياغة «الجملة/الترند» فالكلمة لعبته الأثيرة. يتحسس نبض الجمهور ويجيد التعبير عنه.
محطة ثانية جمعتني بكريم العراقي حاضرة بقوة في وجداني، ففي زيارتي الأولى لمهرجان المربد في البصرة شاءت الأقدار أن يكون هو دليلي فيها حيث تجولنا في شوارع البصرة، وزرنا تمثال الخليل الفراهيدي، وتناولنا العشاء على شط «العشار» مع مدير المهرجان، وأسمعنا يومها كريم من شعره قصائد استمتعتْ بها معنا نجوم السماء وتلألؤُ الأضواء على صفحات النهر. وأجمل ما جمعني به لقاء ممتع على صفحات مجلة «زهرة الخليج» فحين طلبوا مني أن أكون نجمة غلاف أحد أعدادها، مقترحين أن يشاركني الغلاف شاعر لم أتردد لحظة في طرح اسم كريم العراقي، وقد رأى ربيع هنيدي الصحافي الذي أجرى الحوار معنا، أن لدينا قواسم مشتركة كثيرة ليس أقلها نزار قباني وكاظم الساهر، وكان جلسة رائعة رغم طولها، تحملها كريم برحابة صدر وهو الملول بطبعه. وهذا اللقاء قربنا أكثر من بعض ووطد صداقتنا، وعرف ذاك العدد من المجلة ذيوعا كبيرا.
ولم تُبْنَ نجومية كريم العراقي على إبداعه الفني وقصائده فحسب، بل أساس هذه النجومية إنسانيته، فقد تميز بالتواضع الشديد والقرب من الناس ففي عز تألقه كان يتصور مع الجميع، ويتحدث مع الكبير والصغير، لم يكن شعبويا، بل شعبيا، وكان ذلك العراقي الجميل المحافظ على تقاليد بلده الأصيلة في الكرم والتواضع والقرب من الناس، وقد أورث هذه الصفات لعائلته، فحين اتصلت بي ابنته ضفاف لإجراء لقاء معي في قناة «العربية» لم تستعمل اسم أبيها وهي تعرف موقعه من نفسي، بل قدمت نفسها باسمها المجرد وصفتها المهنية، ولم يكن لي إلا أن أوافق. وانعكست أخلاقه حتى على مظهره في لبسه وتصفيف شعره، فكان الشاعر الأنيق لا الشاعر الصعلوك. يهتم بخارجه كصورة منعكسة عن داخله.
نفسه المتسامحة المحبة المعطاءة جعلت منه «عمدة دبي» بالنسبة للفنانين العراقيين، يبذل شفاعته ويقدم مساعدته لمطربين ناشئين واعدين، وكم من فنان استضفته في برنامجي أخبرني بتوسط كريم العراقي له مع شركة روتانا لعلاقته بمسؤولي الشركة. وظل على حبه لكاظم ولنجاح كاظم، رغم إحساسه أحيانا بالمرارة أنه لم يكن ينال مقابلا ماديا منصفا لكلماته، وهذا الأمر لم يكن يخصني بالبوح به، بل يعرفه كل من خالطه عن قرب، فرغم شهرته الواسعة كان يركض وراء لقمة عيشه، فقد كان يعيش من الشعر ولم يمتهن غير الكلمة، ورغم كونه جزءا من الوسط الفني وعضوا فاعلا فيه استطاع أن يحافظ على خصوصياته، ويبعد حياته الشخصية عن التداول الإعلامي. ولعل للتربية الأصيلة والبيئة المحافظة التي جاء منها دورا في ذلك.
اقترحت عليه مرة أن يجمع قصائده في ديوان ولم يكن مقتنعا بالفكرة لأنه كان يرى أن الأصوات التي تؤدي قصائده كفيلة بضمان أكبر انتشار لها، لكنه اقتنع في ما بعد وأصدر عدة مجموعات شعرية منها «هنا بغداد» و«المحاكمة» عن مجلة دبي الثقافية و«كثر الحديث» عن دار صفحات و«أحبك جدا وقصائد أخرى» عن دار أطلس. ولا يزال شعره بحاجة إلى دراسة أكاديمية تقدمه للناس بغض النظر عما فيه من بعض الاختلالات العروضية التي لا تنفي عنه موهبته وإجادته للرسم بالكلمات.
ظل كريم العراقي محبا للحياة، متحديا مرضه فرغم تساقط شعره ونحوله جراء جلسات الكيميائي التي بلغت تسعين جرعة والعمليات الجراحية المتعددة التي بلغت خمسا وعشرين عملية، شارك في أمسيات شعرية وسجل حوارات متلفزة مع قناتي «سما دبي» و«أبوظبي» وأنهى ديوانا من خمس وخمسين قصيدة عنونه بـ«على سرير الأمل» كما أنهى سيناريو الجزء الأول لفيلم «أنا ابن كلكاميش». وحين كنت أتواصل معه وهو في مرضه أجده متفائلا، مطمئنا على أحوالي مشجعا لي وكأنني اتصلت ليرفع من معنوياتي لا لأطمئن عليه وكذلك تكون النفوس الكبيرة.
وأشد ما حز في نفسي أنه كان بيني وبين كريم العراقي موعد لم يتم، فقد كنا على اتفاق بمجرد أن يتحسن أن يقيم في بيتي أمسية شعرية ضمن النشاطات التي كنت أقيمها تحت مسمى بيت الثقافة، لكن قدر الله كان أسرع فمضى إلى رحمته. هذا هو كريم العراقي الذي عرفتُ من أخلاقه وإنسانيته ومحبته الكثير ومضى إلى قدره «ولم يشك للناس جرحا كان صاحبه».
شاعرة وإعلامية من البحرين