حين تتحدث فلسطين باللغة التي يفهمها العالم
قالوا إنه الجيش الذي لا يُقهر.. وقالوا إن الكفاح المسلح بضاعة كسدت منذ ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم.. وبشرونا بأن الجنوح للسلام هو لُب الحداثة السياسية ولغة التخاطب الحضاري مع العالم.. وأن الحقوق لن يتم نيلها إلا بالجلوس إلى مائدة المفاوضات، وهكذا فعل البعض من قومنا، وإمعانا منهم في التحضّر، فقد قبلوا بأن تكون حدود دولة فلسطين حدود عام 1967 بعد أن كانت من النهر إلى البحر، وأن تكون القدس مناصفة بيننا وبينهم، ثم بشّرنا الصهاينة بأن لدينا مبادرة عربية نُطبّع بموجبها كل علاقاتنا معهم إن قبلوا بها، ولأن الرد كان يأتي من الصهاينة برفض كل ما نقدمه لهم من استسلام، ولأن من يهُن يسهل الهوان عليه، فقد قطعنا كل جسور الوصل مع أهلنا في فلسطين، وذهبنا لنتلاقى مع الصهاينة بالأحضان، فكرّت مسبحة التطبيع وفتح السفارات وتوقيع الاتفاقيات العسكرية والتجارية والثقافية والأمنية. وبات الحديث علنا من أن حل القضية الفلسطينية يتم بالتطبيع وليس إلى مائدة المفاوضات. ولأن فلسطين ومضة معنوية في ضمير كل عربي شريف، فقد كانت الأعين والعقول كلها مُعلقة على الثوار الحقيقيين من أبناء فلسطين، فهم وحدهم من يلقون بالحذر على الريح، ويبدون غير مستعدين للمساومة والاستسلام، والعازمون على تطهير هذه الأمة من فشل الحكام الذين فرّطوا بالأرض والشعب، والحريصين على أن يثبتوا أن التاريخ ما زال يُروى على أنه قصة مقاومين عظماء، وليس زعماء منبطحين للأعداء، فكان السابع من أكتوبر 2023.
بغض النظر عن طبيعة الرد الإسرائيلي، فقد تعرضت حكومة نتنياهو لمأزق كبير، وتُعد هذه هزيمة سياسية قاسية للحكم اليميني المتطرف، منذ اللحظة الأولى لوصوله سدة الحكم
إن الإجرام الصهيوني بحق أهلنا في فلسطين وبحق القدس والأقصى، وجرائم قطعان المستوطنين بحق الأبرياء، واستمرار عمليات الاستيطان والاستيلاء على أراضي ومزارع أهلنا، والقتل والاعتقالات وتجويع شعبنا، وفشل كل المفاوضات ومبادرات السلام، كان لا بد أن تدفع بالشرفاء كي يقفوا بالمرصاد لهذا العدو، وأن يضعوا حدا لكل أفعاله، فكانت عملية نوعية أتسمت بالتخطيط الدقيق، من حيث التزامن في الهجوم، واختراق السياج الإسرائيلي، والهبوط بالمظلات، واختطاف الأفراد والاستيلاء على العتاد والمعدات، ما أصاب إسرائيل بصدمة كبيرة لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تنساها، وبغض النظر عن طبيعة الرد الإسرائيلي، فقد تعرضت حكومة نتنياهو لمأزق كبير، وتُعد هذه هزيمة سياسية قاسية للحكم اليميني المتطرف، منذ اللحظة الأولى لوصوله لسدة الحكم في تل أبيب في ديسمبر 2022، كما أن العملية تمثل ردا فعليا لحالة انسداد الأفق الذي واجهته القضية الفلسطينية، خاصة خلال العشرين شهرا الماضية، عند وصول اليمين المتطرف للسلطة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة في هذه العملية البطولية، ففي الوقت الذي يُعتبر ما قامت به المقاومة الفلسطينية، من مباغتة لكل المنظومة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية في إسرائيل، فإن أولى نتائجها هو أنها وضعت حكومة اليمين المتطرف الصهيوني أمام خيارات تبدو مُكلفة للغاية ومحفوفة بالمخاطر، فحتى الساعة لم تستطع هذه الحكومة من أن تحسم الحرب الدائرة، وبكل قدراتها العسكرية لم تتمكن من السيطرة على نقاط مهمة في محيط غزة، التي ما زالت تدور فيها اشتباكات ومواجهات مع مقاومين أبطال تسللوا إليها، وهذه كلها لا تشكل في أي حال من الأحوال مفاجأة للمراقبين المحايدين لعدة أسباب، فلو تابعنا كل العمليات العسكرية التي حصلت، باستثناء العملية التي جرت عام 2014 كآخر عملية تم فيها عمل بري، كان الاعتماد على القبة الحديدية، وطائرات أف 16 وأف 35 والمدفعية، لكننا نجد أن هذه أول مرة يحصل فيها قتال متلاحم، فالجيش الصهيوني يعتمد بشكل كبير على قوات النخبة، لكن لا يوجد جيش في العالم يعتمد فقط على قوات النخبة، لأن هذه القوات مهمتها الأساسية تنفيذ العمليات النوعية، مثل الخطف والنزول خلف خطوط العدو، وتدمير مقرات القيادة والسيطرة. أما القوات التي تمثل القوة الضاربة والأساسية في كل الجيوش فهي المشاة، وأن كل من شاهد الفيديوهات، التي تصور دخول المقاومين الأبطال إلى المقرات العسكرية الصهيونية، عرف جيدا المستوى الهابط لجنود المشاة الصهاينة، حيث كان أغلبهم نياما تاركين واجبات الحماية. وهذا يعطي صورة واضحة عن أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، فقد كان هذا الجيش طوال عمره مختبئا في الملاجئ، وحتى في حرب عام 1973 كان مختبئا في خندق خط بارليف. السؤال الان هو عن الموقف الأمريكي وكيف يمكن فهمه؟
إن حديث واشنطن عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، هو تعبير واضح عن العلاقة الوطيدة والعميقة بين الطرفين، لكنه في الحقيقة يُعبّر عن غياب السياق، فلا يوجد هنالك أي وعي لا على المستوى الشعبي ولا على المستوى السياسي، حول خطورة ما كانت تُقدم عليه إسرائيل في كل المراحل السابقة، بالتالي من وجهة نظر أمريكية ما جرى من عملية بطولية هو عدوان مجاني، وكأنّ المقاومة الفلسطينية قد قررت القيام بذلك لأغراض عقائدية، أو لأغراض سياسية بحتة، وليس كردة فعل على كل التجاوزات والجرائم والانتهاكات التي كانت تقوم بها إسرائيل. وكل كلام غير ذلك ليس مقبولا في واشنطن، لأن السياق ليس مُعدا له. بالتالي الموقف الأمريكي هو التضامن مع إسرائيل، من دون التفات للشق الآخر من المسألة، فوسائل الإعلام الأمريكية اليوم تشير إلى ما يسمونه الضحايا المدنيين من الجانب الإسرائيلي، وكأن الشعب الفلسطيني هو مجموعة إرهابية معتدية، وهذا في الحقيقة ليس تجاهلا بقدر ما هو غياب للسياق، وهذه إشارة واضحة وصريحة إلى ضعف الموقف القيادي الأمريكي، فقد كان بإمكان الولايات المتحدة أن تخرج كل الأطراف من دوامة الفعل ورد الفعل، التي تصل إلى حد الاستنزاف على مستوى المنطقة ككل، ولكن ليس هناك قيادة أمريكية تلتفت إلى هذا الموضوع. إن موقف الولايات المتحدة كان ولا يزال ضمن اعتبارات خارج السياق. كما أن التوجه العام للرئيس الامريكي جو بايدن قاله صراحة في لقاءاته مع السلطة الفلسطينية، وهو أنكم ستحصلون على الدولة، ولكن ليس الآن. إذن متى؟ هذا هو السؤال الذي لا جواب له، لكن واقع الأمر أنها عملية تسويف مستمرة منذ اتفاقيات أوسلو وحتى اليوم. أما الغرب فيصنّف الأمر على أنه اعتداء إرهابي فلسطيني على مواطنين إسرائيليين، لكنه لا يريد أن يرى أو يعترف بأن الشعب الفلسطيني يتعرض إلى اعتداء إرهابي إسرائيلي منذ أكثر من سبعة عقود من الزمن، في حين يرى العالم كله هذا الإرهاب الصهيوني.
يقول نابليون، «إذا كنت تريد شيئا جيدا فأفعله بنفسك»، وهكذا هي المقاومة الفلسطينية الباسلة قد عقدت العزم على اجتثاث هذا السم النابت في أرض العرب من جذوره بيديها، وآمنت بأن الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات. وتركت دلو السياسة الرثة الذي يحمله الزعماء العرب متوسلين بإسرائيل كي تملؤه لهم بالتنقيط المميت، فهم بهدوء ومنهجية ومهارة يبنون قضيتنا العادلة.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية