عامر حسن وأبياتهُ التي تكتمل معانيها في متحف النَّدم
نبيل عبد الأمير الربيعي
كانت بداية اطالة ديوانه الشعري لـ(متحف الندم) كلمات كقطرات الندم ختم بها أوراقه وهي: (في الطريق إلى متحفنا ستسمع هرج الكائنات، فأبدأ رشفتك الأولى من نبيذ العصافير وغني معي)، فكان الأختيار موفق بذكاء الشاعر وفكرهُ الثوري النيّر ليصل بها إلى دلالاته الرمزية بما يبتغيه من نصوص شعرية تجاوزت خمسة عشر نصاً، منها: (فائضُ الخرابِ وبعدْ، الرسام، متحف الندم، الظلام الذي حولك هو الذي دلني إليك، شاعر الخليفة، بغداد والبرابرة، الطريق إلى الجنةَ، الهرطوقي، منفى، أبجد هوز حطي صنمٌ، مذكرات كيس صيني، أبا النهرين، مدن طائرة، نجمة آشور، مدينة الندى). وقد زين الشاعر ديوانه برسومات جميلة ومعبرة من أعمال الفنان فيصل لعيبي.
سأختار من خلال ديوانه الذي وصلني عِبرَ الدكتور باسم العسماوي يوم أمس قصيدة (متحف النَدَم)، لألقي الضوء عليها وفق بساطة معرفتي بالنقد الأدبي والشعر، فليسامحني من احصى عثراتي، فأنا بعيداً عن هذا المجال، لكن أي هدية تصلني لا بد لي من أن اطلّع عليها وأكتب الشيء اليسير عنها، ومن تلك الهدايا ديوان الشاعر المغترب عامر حسن (مَتْحَفُ النَّدَمْ).
قصائد الشاعر عامر حسن تمتلك العلاقة الخصوصية الثورية في أغلب نصوصه، فعرفته ذلك اليساري الماركسي الذي لا يهادن أحداً، فهو عاشق ومتمسك بفكره. وفي قصيدة (متحف الندم) نلمس فيها منطق الشعر السياسي، فيُعبّر عنها ويجسدها في الفضاء النصّي حسب رؤيته الشعرية ورؤياه لهذا الواقع، ففي الصفحات 27- 31 من ديوانه وقصيدته يذكر قائلاً:
أمس واليوم (ما مروا) عليَّ
ليلتان تنتحران..
وضجة من سُكون
رممت كل الهياكل.. والمداخل..
وغسلت الشوارع يقهوة الخبراء
ليلتان بلون البراءة
لم يتبين منهما الخيط الأبيض من الخيط الأسود
من خلال هذه الأبيات يعبر الشاعر عن واقعاً متفجراً، هو صورته الجديدة المغلفة بالترميم لكل الهياكل والمداخل ليتبين من خلالها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيؤسس عالماً متخيلاً بكلمات أحكم هندستها، ويعلن عبرها عن رؤيته وانتظاراته لفضاء مقبل يستحضره عبر حُلًم يرى فيه نفسه، وهو ما يستوقفنا في هذه القصيدة (متحف الندم)، التي يطلق فيها العنان لأحلامه، ويعرض هواجسه دون قيد، لعله من ضروب التجسيد للبعد الرؤيوي، قد لا يترك هذا الالتزام أثره في القصيدة بما تقوم عليه من عمل تركيبي درامي، تتصارع فيه الأفكار والرؤى، وتتعدد داخله الأصوات وتتنوع الضمائر، كل ذلك في إطار نسق فني أقيم على حركة وديناميكية قد تكونان أساس الشعرية فيه.
مع كل هذه المعطيات يصدح في المتن النصّي صوته ليهيء انبثاق غنائية تنبجس من هذا الرمز الذي يفصح عن إيقاع الذات الموجعة، بما تحمله من أحوال متناقضة ومتغيرة، لتدل على مَتحفهُ النادم على السفر والرحيل والقلق على جنازة الوطن، مما يجعله ينغمس في وجدانية تخرج عن لونها الكلاسيكي إلى نوع آخر في خطاب قصيدته:
وأنا أغني بلغة الصمت..
وأسمع هرج الكائنات في حُلم بائر
وحيداً أمشط سماءَ الضائعين في نُزهة التقاعد
في تأثيث مقاهي الندم
وحتى لا يفلت مني ويضيع بين الرجلين
لظمتُ ظلي المتخوم بثرثرة الخمر
بأبرة المنتهى
انتظر فمساؤنا مثقلٌ بالخطايا
وأخا عليكَ من شهقة كاتمِ
فمنذ الوهلة الأولى تتشكل في قصيدته هذه الغنائية، وذلك عبر حركة أقوال تنطلق متحفزة، فتميز النص بطابع سردي حكائي تجعلهُ قول متزامن ولحظة الحدث المثقل بالخطايا وشهقة الكاتم. ويستند الشاعر إلى أركان الخطاب ليحضر فيها متحف ندمه شريكاً فعلياً في عملية التخاطب لجواز عالم القصيدة. فيتأرجح وجودها بين الحضور والغياب حتى لا يفلت منه ويضيع بين الرجلين تخوم ثرثرة الخمر.
وفي حركة نصية بين طرفين بفعل الحاضر والماضي ليستحضر متحفه ويخاطب مقص الرقيب الذي كان أول الحاضرين ليقول:
مقص الرقيب كان أول الحاضرين
أباريق من نبيذ جهنم
وأكوام من حلوى الزقوم
الشريط يترنح
تحت وطأة الحمام الرابض على شغاف انتظاره
أبواب المتحف مشرعة
مثل فخذي ثُريا التي أحبها عبد الجبار عباس
الحشود في الطريق إلى متحف الندم
كثيرون اعتذروا
كونفوشيوس ما زال يبحث عن صحراء
كي يرمي فيها حيتان البحر
أفلاطون فضَّلَ البقاء في مدينته الفاضلة
ماركس حتى هذه اللحظة يناور مع قناص الحداثة
دريدا مشغول بتفكيك خلايا الإرهاب
سارتر للتو بدأ اعتصامه فوق الأهرامات
مردداً – ما ابشع الظُلم –
أبو ذر ممنوع الخروج من الربذة
مانديلا يتجول بين عالمين
ميتٍ وآخر عاجز أن يولد
الجواهري حائر في طرطرت الأحزاب الساخرة
سلام عادل ما زال يرسم لوحة الخلاص
من خلال هذا النص تتداخل في كلماته لغة ساخرة معاتبة لواقع حياتنا السياسية والفلسفية، وهذا ما يعزز حضور المنهج الشعري الذي يقيمه على أساس الحركة والتحول من كونفوشيوس إلى ماركس ودريدا وأبو ذر وماندلا والجواهري والشهيد سلام عادل، فالشاعر لم يخرج عن حدود التمثل الذهني فتغدو القصيدة بأسرها مشهداً منقولاً عبر العصور، من زمن أبا ذر حتى زمن سلام عادل، فلم يخرج الخطاب عن حدود التصور والانفعال، فقد وظف الشاعر الصورة الفنية من خلال ذاكرته المتخمة بالتأريخ الإسلامي والحديث، ومعلوماته حول تاريخ الفلسفة، وهي تدل على تمكنّات الشاعر التي تتجاوز أفق توقع القارئ، فلم يعد العنوان بذلك اختزالاً للمتن، بل وسيلة للتيه وتقريب المدلول بقدر ما تدل على التقابل.
وفي لا وعيه يرسم لنا الشاعر فضاءً ذهنياً لا حدود له، وهو يقول كما يقول أدونيس (إضاءة للوجود المعتم واندفاع صوب الجوهر)، فالقصيدة تحمل فيها معانٍ كثيرة، قد توحي من سرعة الذبول إلى الندم، وهذا من شأنه أن يكشف لنا عن عمق مأساة الشاعر، فكشف لنا عن حركة أقوال الشاعر والفيلسوف ويسارية أبا ذر. فتشكلت من خلال ثنائية القصيدة الذي تداخل فيها الغنائي والملحمي، فهي حركة أقوال عبرت عن رؤيا الشاعر:
بائعات الهوى.. لم يبعنَ سوى نصف نهدٍ أثري
الُشاق رزموا بريد العطور واشلاء القُبل
عمال البلدية تعبوا من تدوير نفايات السياسة
البناءون التصقوا بأسمنت… المصايب
الكناسون يحتفلون بمرور سبعة أعوامِ
على رحيل عادل عوفي
السياسيون شيدوا كُناً لدجاج المنطقة الخضراء
وأكتفوا بـ(عاشت إيدك) (وبعد ما ننطيه)
الرأسماليون الجُدد بعثوا باقاتٍ من فاتورات الظلم
الحطابون اشعلوا الحرائق
لتنير الطريق إلى العالم السفلي
المتنبي يفرك عينيه..
(دمعٌ جرى في الربع ما وجبا)
النفري اعتذر أيضاً
لأنه لا يملك نعلاً ولا ربطة عنق حمراء
أمي ومن مقبرة السلام ارسلت عتابها
(غريبة من بعد عينك يايمه)
العرب اعتذروا.. الكُرد اعتذروا
الكلدان.. المندائيون.. الإيزيديون..
الشَبك.. اعتذروا
القطط السُمان.. وواوية الفلسفة.. أبقار الصدفة..
خرفان الانتخابات وكلاب النزاهة… اعتذروا
من خلال مشاهد أبيات القصيدة التي تشكل شعرية الفضاء الذهني واليأس من مستقبل بلدٍ سرق بوضح النهار، فالشاعر كان يتعامل مع الصور اليومية والأحداث بواقعية، فكان يغص بتفجرات مأساوية تعمق لديه النفس التراجيدي الحامل هموم سياسية واجتماعية وثقافية، وهو ما ندركهُ من خلال الانزياح عن المعنى، مما يجعل من (متحف الندم) رمزاً للفكرة التي يقتنصها الشاعر من خلال ذهنيته وقصيدته وهي عبارة عن حركة زمن بين مدٍ وجزر، تستشرف المستقبل وبها يتقاطع الرومانطيقي مع الغنائي لعتاب والدته في وادي السلام في صورة تقلب فيها الأشياء تماماً كالحُلم. وتتضمن الصور الشعرية ملامح بؤس تقابل أخرى دالة على التمرد والثورة، فالشاعر عرفته يحمل في داخله الثورية اليسارية، لذلك دلّ الاستشراف للثورة عن هذا البؤس، ونستشفهُ في ثنايا أبيات قصيدته (متحف الندم)، وهذا ما يؤكده الفضاء الذهني الذي يحتضن المقام الشعري، وفضاء التحرك في صفحات التاريخ والعودة إلى بلده كعاشق يستعير من صور الملاحم وصحائف مسيرة الجمر، فتتشكل الصور الفنية الشعرية لتعيد لذاكرتنا الميثيولوجيا الاغريقية ورماد الاحتراق فقرن فيه الشاعر واقع بلده المتردي، ليستحضر النص الغائب والنص الغنائي للزمن الغابر بأسلوب انشائي:
الموسيقيون دفنوا حتى نوتات الهمس..
وهم يشخرون على رصيف التقيّة
وحيداً مع صوت وحيدة خليل
وهي تدندن بجالغي الحضارة
أمس واليوم ما مروا عليَّ
أمس واليوم ادك واصفك بدية
وحيداً سأفتح متحف الندم
كلهم اعتذروا..
فالكل سائر في جنازة أوطان.
ومن خلال أبيات الشعر اعلاه قادنا الشاعر لحركة الذهن في علاقة وشيجة بحركة إيقاع اغنية وحيدة خليل، لتحرك فينا لحظة الحُلم والتذّكر والرؤيا، فلغة النص في قصيدة النثر تشد الانتباه لما ضاع من الشاعر وطنه فأعتبره جنازة ليستعجل بدفنها فقد زكمت أنف المتلقي رائحتها. هنا أنطق الشاعر اللغة وقد بعث فيها من خلال (متحف الندم) من الصمت وأنطقها من الغياب، وربطها بزمن الحُلم وهو من أهم ركائز الفضاء الذهني، فأخضع عامر حسن الرمز إلى رؤية النص وما فيه من أداء، فتسافر عبر الذهن إلى حيث ربوع الوطن.
نبيل عبد الأمير الربيعي
الحلة 11 /10 /2023