مطية التاريخ لكتابة «فلسطين» أخرى
أن نكتب عن فلسطين اليوم هذا يعني أننا نؤمن بحق يتمّ اليوم محوه وكأنه لم يكن موجوداً، وكأنه لا احتلال، وكأن 48 لم تكن، وكأن التهجير هو مجرد عملية ذهنية، وأن النكبة ليست أكثر من استهام مرضي سببه التمركز حول ذات منكسرة آن لها أن تأخذ حقائق الميدان بعين الاعتبار. وكأن فلسطين لم تكن أبداً. عندما نكتب نحن نختار قدراً آخر للإنسانية. سنختار الحق مقابل الجريمة الموصوفة، ونختار الأرض مقابل الرشوة المالية، وسنختار -للأسف- الموت عند الضرورات القصوى، بدل العيش في المذلة.
انتابتني هذه الهواجس مجتمعة وأنا أكتب سوناتا لأشباح القدس.
فأنا أدرك مسبقاً أن الكتابة عن فلسطين تقتضي بالضرورة أن نؤمن بكل هذا مسبقاً. أن نكتب عن القدس تحديداً هذا يعني أنه علينا أن نخوض معركة بلا هوادة ضد الذاكرة الوهمية وأن نعيد تركيب القطع الزجاجية للمدينة للحصول على القدس، قدس الكتابة التي ترتبط بالتاريخ الجمعي، ولكن أيضاً بالتاريخ الفردي والرؤية الذاتية. أي هي منجز جمعي ولكن لا قيمة له إذا لم تتم صياغته نصياً لأنه سينتقل من الواقع الموضوعي باتجاه الرواية مما يعني بالضرورة بأن القادس قد تفقد شيئاً من انتمائها التاريخي، وتنحاز أكثر إلى فعل الكتابة بكل جانبه الجمالي. نكتب المدينة ولكن أيضاً نكتب جراحاتنا التي تسببت فيها هذه المدينة. عن أي قدس سنتحدث، تلك التي يريدها المسلم له وحده لأن بها من علاماته التاريخية والدينية الكثير؟ تلك التي يريدها المسيحي لأن بها كنيسة القيامة ودرب الآلام الذي قطعه سيدنا المسيح محملاً بصليبه؟ أم اليهودي الذي يبحث عن هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى محملاً المسلمين مسؤولية تدميره مع أن التاريخ يقول شيئاً آخر؟ أم قدس التجاور الديني المتعدد في مدينة عرفت بتسامحها. أي القدس التي تشكل مشتركاً إنسانياً من ناحية الاعتقاد؟ أرض تآلفت فيها الديانات التوحيدية الثلاث، مع رفض مسبق لمنطق الاحتلال الذي يريد أن يجعل من القدس معبراً نحو تاريخه الافتراضي.
كنت أتساءل وأنا أكتب سوناتا لأشباح القدس، ماذا يمكن لكاتب عربي، من المغرب الكبير، مشبع بفلسطين وبقدسها كما تلقاها منذ اللحظة الأولى، أن يفعل؟ كيف يمكنه أن يكون فلسطينياً ولو قليلاً، بعمله وتعاطفه، وأكثر، بكتاباته؟ هل يكتب رواية ليتخطى المسافات باللغة والمعاني المشبعة، كما يرفع الجزائري البسيط اليوم العلم الفلسطيني في كل حراكه الضخم فقط ليثبت للعالم بعفويته، أو على الأقل العالم الذي في رأسه، أن فلسطين ما تزال قضيته الأولى، وأن القدس عاصمتها، حتى ولو يئس من إخوة الدم والتاريخ؟ في أعماقي، أحسد هؤلاء الشباب العفويين الذين لم يصبهم ما أصاب المثقف. ما أصابنا، بالمقابل، لا يمكن لكاتب وصل إلى حالة إشباع قرائي وسياسي للحالة الفلسطينية، أن يقبل أيضاً بغير التاريخ الذي يعرفه وكبر عليه. يريد أن يكتب تاريخاً روائياً فيه ملمس التاريخ ولكن أيضاً الخصوصية، ويقول تلك اللحظة الصعبة التي لم ينتبه لها الآخرون. يحلم على الأقل. لا رواية من دون تلك اللحظة الاستثنائية، التي تصنع الإبداع، وإلا سيصبح الفعل الأدبي سيلاً من الكلمات المكررة. في الرواية التاريخية معاناة كبيرة لا توصف. الجهود المضنية تغيب وسط التاريخ نفسه واللغة المستعارة للتعبير عنه. لا بد من أن يكون هناك عنصر ما في هذا التاريخ جعل الهزائم تتكرر باستمرار، وفي حقب مختلفة، وبأشكال تكاد تكون متشابهة، وكأن الزمن لم يتغير، أو كأنه يتغير بالعودة إلى الوراء. أو ربما هناك نقطة في مساحة دائرية، كلما ابتعد عنها، وجد نفسه فيها في دوامة تكاد تتحول إلى قدر لا يمكن تفاديه.
ثم عن أي قدس سأتحدث وأنا أقلب أوراق التاريخ المرتبك؟ عن أي فلسطين سأكتب؟ فلسطين التاريخ كما في ثورتها الأولى التي صادفت بشكل غريب الحرب الأهلية الإسبانية 36؟ التاريخ كما عرفناه قبل 48؟، فلسطين المقاومة التي لم تتوقف أبداً؟ أم فلسطين الأمر الواقع التي تعيش اليوم أصعب صورها لولا بارقات الأمل التي يفتحها بعض المقاومين هنا وهناك في ظل تعنت إسرائيلي لن تعلمه سنوات التقتيل أي شيء، ونسي أن التطرف لا ينجب إلا التطرف. غلق الأبواب كلها وابتلاع فلسطين بما في ذلك الضفة الغربية، لا يمكنه إلا أن يزيد النار اشتعالاً.
حالات ثلاث تتحكم في تراجيدية الكتابة اليوم عن فلسطين. فلسطين التاريخية تغيرت كثيراً منذ قرار التقسيم الذي صدر من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/ 1947، ورفضه العرب متّكلين على جيش إنقاذ عجز عن إنقاذ نفسه من هزيمة قاسية. لم يعد هذا التاريخ موجوداً بعد أن نهبت إسرائيل فلسطين كلها، حتى ما سمي دولة فلسطين، لم يبق منه الشيء الكثير. دولتان في بلاد واحدة: رام الله وغزة (يتم اليوم محوها من الخارطة شعباً وعمراناً بحقد غير مسبوق في ظل ميزان قوى تسيره أمريكا كما تشاء وفي ظل عجز أوروبا التي لم تعد قادرة على أي مقترح بعد أن وضعت إرادتها في يد من هو أقوى منها)، ومستوطنات على مد البصر تأكل آلاف الهكتارات من الأراضي الفلسطينية الخصبة. فلسطين المقاومة؟ بدأت تضمحل منذ القبول باتفاقيات أوسلو. انتهت الانتفاضتان الأولى والثانية، والانتفاضة الثالثة أصبحت صعبة بعد المتغيرات على الأرض. ما يحدث في غزة اليوم هو مقاومة بعد اليأس من كل الحلول المفترضة؟ لم يعد للفلسطيني من سند إلا جسده؟ به يرفع سقف الرهانات كلها. فلسطين اليوم عرضة لكل عمليات الإفناء داخل اليأس العربي المعمم. مع أية فلسطين يتعامل الكاتب العربي اليوم؟ هل انغلقت سبل التحرر أم إن المثقف العربي لم يعد قادراً على إبداع فلسطين الأخرى؟ فلسطين المرايا الخفية التي تنبت فيها أحلام مقاومة الإذلال المبرمج. كيف يمكنه من داخل هذا الشتات الترابي أن يعيد ترميم وتخييل زمن آخر، أكثر قابلية للحياة. يبدو الأمر سهلاً على مستوى الخطاب العام، لكن على مستوى الفعل الإبداعي، سيختلف الأمر كلياً، إذ على الكاتب تفكيك اليقينيات التي لا تقبل بالهزيمة لتحليلها وإعادة قراءتها، دون تحويلها إلى انتصارات وهمية، أو البحث عن مشجب لتعليق الهزائم، كأننا في فرنسا بعد هزيمتها القاسية مع النمسا، في سبعينيات القرن التاسع عشر، حينما ألصقت خراب بنياتها العسكرية الداخلية في ضابط يهودي اسمه دريفوس، في ظل معاداة مستفحلة للسامية. ولولا كاتب عظيم مثل إيميل زولا الذي كاتب الرئيس في رسالة مشهورة حملت عنوان: إني أتهم. أعاد فيها بناء القصة كاملة، وتفكيك الهزيمة وآلياتها التي كشف فيها بالدليل القاطع أنه لا دخل فيها لدريفوس، لكن الهزيمة بنيوية في صلب الجيش الفرنسي نفسه في القرن التاسع عشر.
وأنا أكتب سوناتا لأشباح القدس لم تكن المشكلات السياسية وحدها الحاضرة في رأسي وقلبي، فقد كنت مسلحاً بكل هذا وبأكبر منه. كنت داخل هاجس الموت الذي يصيب الأوطان. متى تموت أرض هي مرجعنا الروحي الأساسي؟ عندما تصبح بين أيدي الغير. انتابني هذا الإحساس وأنا أفكر في المناضل والباحث الكبير الفلسطيني العظيم، إدوارد السعيد، وهو مريض بسرطان الدم، الذي أكل جسده في الخفاء قبل أن يسرقه من هذه الدنيا في 25 سبتمبر 2003، بأحد مستشفيات نيويورك، عن عمر ناهز 67 سنة، ثم كتب وصيته بأن يدفن في المدينة التي تربى فيها، في القدس، لكن السلطات العسكرية الإسرائيلية منعته من ذلك ميتاً، فأوصى بحرق جثته ونثر ودفن رماده في لبنان. وهو ما تم في 30 أكتوبر 2003 فنقل رماده إلى مقبرة برمّانا الإنجيلية بحضور عائلته.