جبل الزيتون: يوميات ضابط تركي في دمشق وبيروت وغزة
تُظهِر مشاهد العنف في مدينة غزة اليوم، ما آلت إليه أوضاع المشرق العربي في السنوات الأخيرة، على صعيد دمار المدن، وموجات الهجرة والنازحين، وغياب رادع دولي، وانهيار اجتماعي وثقافي على وجه الخصوص. ولعل هذا المشهد ليس الأول في هذه المدن، وإن بدا اليوم أكثر قسوة ودموية، بل نقرأ عن مشاهد مشابهة قليلا عاشتها هذه المدن مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
ولعلنا نعثر على هذه الصورة بشكل واضح في يوميات الضابط التركي فالح أطاي، المترجمة حديثا من التركية عن دار الرافدين (ترجمة/ ملاك أوزدمير وأحمد زكريا). ففي هذه اليوميات نتعرّف على واقع صعب عاشه عدد من المدن في المشرق العربي (دمشق، بيروت، القدس، غزة) عشية نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي أحداث ستنعكس لاحقا على واقع وحياة هذه المدن، حتى أيامنا هذه.
أكثر ما يلفت النظر في هذه اليوميات، أنّ هذا الانهيار بدا بمثابة إعلان عن بدايات تشكل مرحلة جديدة، أكثر قتامة، وربما نرى الشيء ذاته اليوم، فبعد مشاهد دمار حلب والموصل وغيرهما من المدن، نرى اليوم مشهدا قريبا تعيشه غزة، وينذر بتحولات جديدة وصعبة. في يوميات أطاي، نعثر على قصة جندي عمل إلى جانب جمال باشا في ولاية سوريا، وقد أتاحت له هذه الفرصة الاقتراب أكثر من واقع المشرق ونخبه، وعلى الرغم من أنّ هذا الجندي يبدي في بعض الأحيان موقفا تركيا عنصريا من العرب، إلا أنه استطاع أن يرسم واقع الانهيار الذي بدأت تعيشه مدن المشرق بعد 1914، وكيف أنّ الضباط الأتراك والقادة المحليين كانوا سببا في هذا الانهيار. وذلك بسببب إصرارهم على عدم قراءة الأحداث التي تحيط بهم، ما جعلهم يفقدون هذه المدن ويرحلون إلى الأناضول. كان هواء إسطنبول عام 1914 مغطى بأنور باشا، مشرق معه وملبد معه أيضا، فقد كان ضابطا لا يعرف الخوف، حازما في كلماته، لكنه بسيط جدا، لكن هذه البساطة لم تمنع من أن يتحول إلى ديكتاتور الامبراطورية.
بدا المركز العام للاتحاد والترقي قد فقد الأمل تماما في النصر في العام الأخير من الحرب العالمية الأولى، وبعد أن دُمِّرت روسيا أيضا، سيطرت عليهم فكرة البحث عن فرصة واحدة لصنع السلام، لكن لم يكن لدى أي منهم الجرأة لفتح هذا الأمر مع أنور باشا. وذات يوم قرر نجيب بك (والد حسن رضا صوياك الكاتب العام لأتاتورك) شرح الموقف لأنور باشا، فما كان من الأخير إلا أن رد عليه بالقول «واه يا نجيب بك، واه، لقد سمموك أيضا. أنت رجل مؤمن. فاعرف أنني وكيل الله لتأسيس الملك التركي العظيم. اذهب لبيتك ونم مرتاحا». وعندما عاد نجيب بك إلى المنزل، أخذ يقول: «لو لم يكن هذا الرجل وزيرا للحرب.. لكان مكانه فقط في مستشفى المجانين». في مقابل هذا المشهد، نرى أن هواء المشرق العربي أيضا بدا مغطى بروح جمال باشا وقراراته.
تعرف أطاي على جمال باشا (قائد الجيش الرابع) والحاكم الفعلي لولاية سوريا، في المدرسة العسكرية في إسطنبول قبيل الحرب العالمية الأولى، بدا له آنذاك شابا فخورا بنفسه بعض الشيء ولطيفا. ومع وصوله لحلب 1915، اكتشف أن هناك جمال باشا (آخر) بملامح قاسية، يصرخ طوال الوقت، ولا تعرف الابتسامة طريقا إلى وجهه أبداً. كان المقر الرئيس للباشا في القدس، في دار الضيافة الألمانية على قمة جبل الزيتون، وقد وصل أطاي للعمل إلى جانب الباشا بعد طلب من الأخير. عند وصوله للمقر، كان صوت الباشا يهز المبنى وعمائم بعض أعيان مدينة نابلس، والذين وقفوا أمامه في تلك اللحظة، بينما يوجه لهم كلاما قاسيا وتهما بخيانة الدولة. وهي تهم جعلته في نهاية اللقاء يخيرهم بين الإعدام أو النفي إلى الأناضول. مع مرور الأيام، اكتشف أطاي أنه من بين البريطانيين والروس والإيطاليين والعثمانيين، كان العثمانيون أقلهم معرفة وفهما بشؤون سوريا وفلسطين والحجاز. فقد كانوا كما يذكر يتجولون بعربة مدفع ويراقبون ما يحدث بعيني موظف لص. كان جمال باشا يرى أنّ التيار العربي سوف يتوقف، من خلال استخدام العنف من جهة، وسياسات إعادة الإعمار والإصلاح من جهة أخرى. يذكر أنهم سكنوا في حي الصالحية في دمشق، وبحلول ظهيرة يوم الجمعة، كان الشيوخ السوريون يأتون إلى المقر العسكري، وقد بدا جمال باشا وسط هذه الحلقة متكئا في جلسته، ويحمل بيده ذات التسع والتسعين. ويحاول إقناع الجميع بأنّ الشأن السوري يرى وفق الآيات والأحاديث!
في بيروت، بدا المشهد أكثر قساوة آنذاك، فعند دخول مع (خديوي سوريا/ جمال الباشا وفق ما كان يروج) بالقطار شاهدوا الأطفال المنتفخة بطونهم يجلسون على قشور البرتقال الملقى على الأرض، والنساء الضعيفات يقضمن بقايا الخبز، أخذوا يستمعون لأنين الهياكل العظيمة الجائعة، والذين زحفوا على موكب الباشا وهم يهتفون: جوعانين.. جوعانين.
القدس وغزة وما حولها: وكأنها اليوم
ويبدو أنّ الانهيار طال كل مدن المشرق آنذاك، وهو واقع لم يتحمّل مسؤوليته الأوروبيون فحسب، المشاركون في الحرب العالمية الأولى ضدهم، بل نجم أيضاً، وفقا لأطاي، عن الرؤية العثمانية وقادتها. الذين ظلوا ينكرون الخسائر، ويركزون على تبني مغامرات كبيرة. ومن المشاهد التي يرويها هنا، وربما تكون أيضا قريبة من المشهد الذي نعيشه اليوم في فلسطين، واقع مدينتي القدس وغزة آنذاك. إذ يذكر مثلاً أنّ الجوع أحاط بالمقدسيين من كل مكان، وأن كنيسة بيت لحم بدت آنذاك مهملة، ونوافذها مكسرة. وربما ما يدعم هذه الصورة، اليوميات التي تركها لنا أيضا الجندي المقدسي إحسان الترجمان (1915ـ 1916) والتي روى فيها تفاصيل عن الفقر المدقع والجوع والمرض في القدس، وظهور أنماط سلوكية جديدة، مثل انتشار التسول والسرقة والدعارة، في المقابل، يذكر أنه عثر على فلسطين أخرى في القرى اليهودية. فالمختار يهودي إنكليزي يرتدي بدلة في المساء. والفتيات اليهوديات الألمانيات ذوات الخدود الحمراوات يعدن إلى القرية من الكرم. أما العرب المسلمون فهم في خدمة هؤلاء السادة.
وفي عام 1917، نشبت معارك بين العثمانيين والإنكليز على جبهة غزة، كانت الصحراء بيد الإنكليز، ومعهم الآبار والقنوات والدبابات الحديثة. في المقابل كان الجيش العثماني قليل العدد، وبلا ماء، ويصعب وصوله إلى الخبز الجاف والبنزين. وقد وصل أنور باشا في هذه الفترة، ونصبوا خيمة له وأخرى لجمال باشا في الصحراء، في هذه الأثناء، وبينما كانت أصوات المدافع البريطانية وقذائفها لا تتوقف عن غزة، كان الجنود العثمانيون يراقبون ما ستؤول إليه المفاوضات بين الصديقين المتخاصمين أنور باشا وجمال باشا (وكأننا أمام مقاطعتي فتح وحماس). ومع نهاية الليلة، خرج أنور وجمال باشا من خيمتيهما واقتربا من بعضهما بعضا. فتح أنور باشا صندوقا كان يحمله في يده، وضع نيشانا على صدر جمال، الذي كان قد سمع أن هذا النيشان منح للقائد العام وغضب لأنه نسي، إلا أنّ حفلة النياشيين هذه لم تمنع من سقوط غزة، ولاحقا القدس. وبعد الهزيمة الكبيرة في دمشق، يذكر أطاي أنهم اضطروا إلى أن يتركوا في دمشق عربة قطار، ممتلئة بالنياشين المجيدية. وفي طريق العودة المر نحو الأناضول، أخذ جمال باشا يحدثه عن أمنيته في العمل في الأناضول، إذا بقي في وظيفته. لكن هذه الأمنية بدا من الصعب تحقيقها أمام مشهد امرأة وقفت في إحدى محطات الأناضول وهي تقول: «هل رأيتم أحمد» الذي قتل في الحرب. وهنا يعلق أطاي «لو استطعنا أن نقول فقط في أي شيء ضيعنا أحمد، ولو استطعنا أن نخبر الأم بما كسبناه بخسارة أحمد. ونعطي خبرا يجعلها تفخر به، لكننا فقدنا أحمد في المقامرة!». وبينما كان قرار من تبقى من العثمانيين برمي السلاح، والحلم بقضاء ما بقى من العمر في إحدى مدن الأناضول، قرر أتاتورك خوض حرب الاستقلال. يعتقد المؤرخ التركي ألبير أورتايلي في كتابه «الغازي أتاتورك» أنّ ما ميز تجربة أتاتورك وعصمت أينونو ورفاقهم عن رجال مثل أنور باشا وطلعت باشا أو جمال باشا، هو إدراكهم لأهمية سلاح الدبلوماسية. فالاستقلال يحتاج أيضا إلى تفاوض وانفتاح، وقراءة للمشهد العالمي، وتوازناته، عوضا عن التمسك والركون لفكرة «أن الآخر يكرهنا فقط» ولعلها الفكرة الأكثر ترديدا هذه الأيام من تطوان إلى إسطنبول وطهران.