عن مفهوم الآخر .
الدكتور/عبد الحسين شعبان .
لا يقتصر مفهوم الآخر على النوع الاجتماعي، بقدر ما يمثّل أبعادًا حقوقية وقانونية وثقافية واجتماعية، سواء كان هذا الآخر دينيًا أو إثنيًا أو لغويًا أو سلاليًا. فهو في عموم الثقافة الإنسانية والحضارات المختلفة، متجذّر في منظوماتها بما يشتبك اليوم مع مفهوم المواطنة العصرية، إذْ لا يمكن الحديث عن المواطنة بمعناها السائد في الدولة الحديثة، إلّا ومعها التعدّدية والتنوّع، وترجمة هذا القول عمليًا، تعني قبول الاختلاف، الذي هو من طبيعة الأشياء.
وعلى مرّ التاريخ، انقسمت الرؤى إزاء الآخر سلبًا أو إيجابًا، قبولًا أو رفضًا، والأمر يتعلّق بدرجة تطوّر المجتمعات ومستوى وعيها، فالمجتمعات المتقدمة، التي عرفت قدرًا من الحريّة والتسامح، اتّجهت إلى الإقرار بالحقّ في الاختلاف، أمّا المجتمعات المتخلّفة، فيتغلّب الإنكار على علاقتها مع الآخر بسبب التعصّب والغلو وادّعاء الأفضلية.
وبالطبع، فإن الاختلاف في النظر إلى الآخر، يتباين بين تيار فكري وسياسي وآخر، وبين فئة اجتماعية وأخرى، وبين شخص وآخر، تبعًا لدرجة الوعي من جهة، والثقافة الحقوقية من جهة أخرى، والمنظومة القانونية السائدة والتطوّر الاجتماعي، من دون نسيان المصالح التي تتحكّم بمسار هذه الاعتبارات.
وإذا كان الإنسان كائن اجتماعي أو حيوان اجتماعي بطبيعته، حسب ما تناوله الفلاسفة الأوائل من سقراط وأرسطو، وصولًا إلى الفارابي، فإنه والحالة هذه، لا يستطيع العيش دون الآخر، وهذا يتطلّب قدرًا من التسامح والقبول، وهما طريقان إلى المساواة والعدالة، لاسيّما بتجاوز الأنا المتعصّبة جماعيًا أو فرديًا، تلك التي تقوم على الاستعلاء والزعم بامتلاك الحقيقة والتفوّق.
صحيح أن المجتمعات المتقدّمة تجاوزت الموقف السلبي من الآخر، إلى حدود غير قليلة، إلّا أن نظرتها إلى شعوب العالم الثالث وتعاملها معها، ما تزال تنطلق من العقلية الاستعلائية، التي لا تخلو من العنصرية. أمّا مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهي تعاني من أنواع مختلفة من التمييز والإقصاء والتهميش، الأمر الذي قاد إلى تخندقات حادة، إثنية ودينية ومذهبية ولغوية واجتماعية وغيرها، بسبب صراع المصالح على السلطة والثروة، وقاد إلى صراعات تناحريّة، لاسيّما حين تغيب المواطنة المتساوية والمتكافئة، ويتمّ التنكّر لحقوق المجموعات الثقافية، التي تُسمّى مجازًا ﺑ “الأقليات”، علمًا بأن مجتمعاتنا تضمّ تعدّديات وتنوّعات تاريخية، ولا يمكن اختزالها إلى هيمنة أيديولوجية واحدة، أو إثنية واحدة أو دين واحد، لأن ذلك سيعني تجاوزًا على قبول الحق في الاختلاف، بما يقود إلى الاحتراب ويزعزع الوحدة المجتمعية والاندماج والتفاعل والتكامل المؤسس لحالة التسامح والعيش معًا والتواصل السلمي، الذي هو مصدر قوّة للجميع.
الاختلاف في الأديان أو الإثنيات أو المذاهب أو التيارات الاجتماعية والسياسية والثقافية، أمر طبيعي، وهو من صلب الحياة وواقعها، ولا تنبجس الحقيقة دونه، وذلك نابع من الفطرة الإنسانية، التي تشكّل الدافع الأعظم للتعايش والتواصل، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ من حمايته قانونيًا، والحفاظ عليه مجتمعيًا، لأنه ظاهرة كونية.
إن واحدة من محن المواطنة في البلدان النامية، تكمن في العلاقة مع الآخر المختلف، وتلك إشكالية ما تزال قائمة ومؤثرة في مجتمعاتنا، خصوصًا شعور بعض الفئات والجماعات بالإجحاف والغُبن وعدم المساواة، الأمر الذي يؤدي، بتفاقمه، إلى نشوء أزمات حادة، أثرت وتؤثر في استقرار بعض الدول ووحدتها ومستقبلها، فضلًا عن هدرها طاقات بشرية ومادية ومعنوية، ينبغي عدم تبديدها والاستفادة منها. وإذا كان شعار المواطنة للجميع، فهذا يعني حق كلّ مواطن في الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، بما يحفظ كرامته الإنسانية وحقوقه الطبيعية وخصوصيته وهويّته الفرعية، وبالتالي حقّه بالاختلاف.
ولعلّ المواطن الاعتيادي، بعيدًا عن الأفكار المترسبة والآراء المسبقة، التي تقلل من شأن الآخر، فإنه، يعيش مع الآخر ويشاركه همومه بتلقائية وعفوية، دون النظر إلى دينه وقوميته ولغته وجنسه وأصله الاجتماعي، ولكن حين تتدخّل الأيديولوجيات الضيقة والفكر الأُحادي الإقصائي، يكون الأمر مختلفًا، لاسيّما بالتعصّب الذي ينتج وليده التطرّف، وهذا الآخر حين يصبح سلوكًا، يتحوّل إلى عنف وإرهاب.
إن التعرّف على الآخر والحوار معه، يعزّز من فهمه على نحو واقعي وعقلاني، وليس عبر تصورات عنه، وإنما عبر صورته الحقيقية كما يقدّمها هو، الأمر الذي يحتاج إلى نقد إيجابي للمعطيات النمطية والمشوشة والسائدة بشأن الآخر.
وهنا لا بدّ من البحث عن المشتركات الإنسانية الجامعة، تلك التي، بتعزيزها، تؤدي إلى إنتاج خطاب وسطي اعتدالي يعترف بالإنسان كقيمة عليا وبخصوصيته وهويتّه الفرعية، في إطار الهويّة الموحّدة وليست الواحدة، وذلك أكثر ما تحتاجه مجتمعاتنا، حكومات وأحزابًا ومؤسسات دينية وتربوية وإعلامية وقانونية وحقوقية ومدنية، لاسيّما بتوسيع المساحة المشتركة التي تخدم مشروع الانفتاح والحوار والسلام والعدل. فالإنسان أخ الإنسان، بغضّ النظر عن الاختلاف، فضلًا عن أنه مقياس كلّ شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.