الثقافة سنة 1973: كتابة سيرة شعبية للحرب
يحمل الحديث عن الحروب أكثر من وجه، إذ عادة ما تركّز الأخبار على أعداد القتلى والمعارك الميدانية، والخطط العسكرية. لكن في المقابل تحوي الحروب أيضاً على تفاصيل أخرى لا تقلُّ أهمية، وتتعلّق بالتاريخ اليومي وتأثيرها على حياة الناس والجنود وذكرياتهم عنها. كان صامويل هاينز قد لاحظ في كتابه «حكايا الجند» أنّ الحرب ليست مكاناً للقتال بين جيشين فحسب، وإنما هي قبل كل ذلك أماكن لإبادة الرجال، ولذلك أخذ هاينز يبحث عن سير من قاتلوا، ورؤيتهم للقتال.
سيروي له أحد الجنود أنّ المعركة في اليوم الثالث باتت تحمل معاني وتعريفات جديدة، فهي لم تعد مكانا لانتصار قضية الحق على الباطل، أو طرف ما على آخر، بل تحولت أيضاً إلى ساحة مكروهة، كونه قد يخسر خلالها نفسه وأصدقاءه. ومع هذا التعريف، يمكن القول إننا كنا أمام تاريخ آخر عن الحروب، ظهر هذه المرة مع الجنود، بدلا من القادة، الذين لم يعودوا أبطالا، وإنما أناس عاديون يعانون من الجوع والبرد وفقدان الأهل، وضياع سنوات العمر، وأحيانا الموت. وربما الشيء المهم في هذا التاريخ أنه أتاح لنا فرصة عبور أو تجاوز التاريخ البطولي وفق تعبير فرانسوا هارتوغ للحروب، الذي لا يركّز إلا على الانتصارات وبسالة الجنود في المعركة. وذلك لصالح تاريخ آخر، يحاول تتبع تفاصيله، من تأثير الحرب في حياة المشاركين فيها، والناس العاديين، وكل ما له علاقة بتفاصيل صغيرة تحيط بهم، من انقطاع الخبز في الأسواق، وتغير القناعات وانتشار المومسات، وفق ما لاحظه مثلا الجندي التركي فالح أطاي خلال الحرب العالمية الأولى.
وهذ البحث عن تاريخ أسفل للحروب، مقارنة بتاريخ المعارك، سيطبع طموحات الباحث المصري محمد سيد ريان في كتابه «الثقافة سنة 1973.. سيرة شعبية لحرب أكتوبر» الذي جاء في ظل مرور خمسين سنة على حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول1973، إذ سيحاول كتابة تاريخ شعبي للحرب، من خلال التركيز على روايات العمال والفلاحين عن تلك الأيام، وعلى صورها في مجلات الأطفال (مثل مجلات ميكي وسميرة) لكن وعلى الرغم من هذا الطموح واللقطات الذكية في الكتاب، يمكن القول إنّ رحلة البحث لم تأتِ بما تشتهي نوايا القراء، قبل مؤلفه.
يتّخذ الباحث الريان مجلة «الطليعة» المصرية كنموذج لدراسة آراء الفلاحين والعمال. وفي هذه الآراء نعثر على فلاحين متحمسين للحرب، ومتيقنين من اندلاعها، ومن انتصار الجندي المصري، ومن الاستعداد لبذل الغالي والرخيص لاستعادة الأرض. فمثلاً، نجد محمود خليفة (عامل نسيج في شركة وولتكس ـ مصنع البطاطين في روض الفرج) يقول: «كنت عارف إننا في معركة دايمة مع إسرائيل وأمريكا. وما كنتش أتوقع تاريخ قيام المعركة الأخيرة. لما بدأنا إحنا المعركة أدركت إننا حننتصر.. تأثير المعركة على عملنا في المصنع كانت تظهر في نشاط العمال في العمل، كان كل واحد بيعمل دون مراقبة من رئيسه». ما نعثر عليه في هذه الشهادات، امتداد بشكل أو بآخر للتضحيات التي يقدّمها الجنود في ميدان المعركة. لكن ماذا عن الجانب الآخر من الحرب؟ وأعني بذلك تأثيراتها الاجتماعية واليومية على حياة الناس.
يتّخذ الباحث الريان مجلة «الطليعة» المصرية كنموذج لدراسة آراء الفلاحين والعمال. وفي هذه الآراء نعثر على فلاحين متحمسين للحرب، ومتيقنين من اندلاعها، ومن انتصار الجندي المصري، ومن الاستعداد لبذل الغالي والرخيص لاستعادة الأرض.
وهنا يذكر المؤلف بعض الشهادات التي تُظهِر تفاصيل من هذا التاريخ الشعبي واليومي للحروب، مثل رواية محفوظ محمد حسين (عامل معمار ـ مركز غمر) التي قال فيها «في أيام المعركة كنا كلنا متشجعين لا نخاف الموت لكن كان فيه بعض التجار مشغولين بالسوق السودة». وهو ما يشير إلى ارتفاع أسعار بعض المواد التموينية، ونقص بعضها الآخر، وظهور أشخاص يرون في الحرب فرصة للاغتناء والاستفادة، وليس للتضحية فحسب. مع ذلك، والغريب أيضاً، أنّ الباحث الريان لا يقرِّر إدراج هذه الوقائع في تاريخه الشعبي، وظل محصوراً بمواقف الفلاحين والعمال الشجاعة والمؤدية لحرب أكتوبر. ولعل عدم الحساسية تجاه هذه الروايات، والتركيز فحسب على شجاعة المصريين في المعركة والصفوف الخلفية، أفقد القارئ حماسة اكتشاف تواريخ جديدة. فعلى صعيد الطعام مثلا، لا يقف كثيرا عند أسعار المواد الغذائية قبل وخلال وبعد الحرب، ومن هم هؤلاء التجار الذين لعبوا دورا سلبيا في السوق. وربما لو فعل ذلك، لكنا فعلا أمام تاريخ شعبي للحروب بوصفها نشاطا إنسانيا، لا يقتصر على المعارك أو التضامن فقط، بل يشمل أناسا شتى، وكل منهم يتأثر ويؤثر بأسلوب مختلف.
فقد لاحظ الروائي العراقي فليح الزيدي في كتابه الماتع «شاي وخبز» كيف لعبت الحروب في العراق دورا على صعيد تغير أجساد العراقيين وولادة «طباخ الأمة» في إشارة للدولة. فمع الحصار واستمرار المعارك، كانت الحكومة العراقية قد اضطرت إلى تخصيص وتوزيع مواد على العراقيين، تحمل في الغالب نسبا عالية من النشويات. وهذا ما أدى الى تغير شكل جسم العراقي، فأصبح أكثر بدانة في ظل تبعات الحروب والمعارك، وربما يُعدُّ هذا جزءا من السيرة الأوسع للحرب، أو السيرة الشعبية.
قصص وذكريات أخرى
لكن كما ذكرنا، يمتاز كتاب الريان بالتقاطه لمداخل ومقترحات جيدة لكتابة سيرة شعبية للحروب، ومنها إشارته إلى ضرورة دراسة مجلات الأطفال، وكيف رسمت صورة الحرب. إذ نعثر في العدد 915 من مجلة «سمير» الصادرة في 21 أكتوبر/1973 على بورتريه مُصوّر ومكتوب عن الزعيم أنور السادات بعنوان «البطل» بينما جاء إعلان عن هدية العيد للأطفال في العدد المقبل عبارة عن «طيارة ونبلة بلاستيكية ولبيسة قلم». ونقرأ في العدد 916 الصادر في 28 أكتوبر، قصة بعنوان «كلهم أولادي» تحاول تشجيع الأطفال على التضامن والمشاركة والتعاون في سبيل تحقيق الهدف. وبالتالي، ما يلاحظ في كلا العددين، محاولة السلطة استخدام كل قنوات التعبئة والمنابر، في سبيل تأكيد سرديتها. ويبدو أنّه حتى مجلات الأطفال لم تستطع التهرّب من هذا الأمر، ولعلها لقطة ذكية تُحسب للمؤلف. مع ذلك لا يحاول الريان التوسيع من تاريخه الشعبي تجاه الإجابة عن أسئلة مثل، كيف صنعت هذه الصور، ومن كان يحرر المجلة، لفهم دور السلطة في إعادة كتابة وتأكيد سرديتها عن الحرب ونتائجها.
ولعل العودة للمذكرات التي كُتِبت عن أكتوبر، خارج مذكرات الجنود والضباط، هو أمر مهم قد يتيح تصورا آخر للناس عن الحرب ويومياتها. واللافت في هذا السياق، أنّ هذا الأمر مثلا شغل بال السوريين الذي عاشوا تجربة 1973، ما وفر لنا فرصة لفهم تاريخ آخر ليومياتها بعيدا عن عناوين البطولة.
وما مدى تطابق هذه السردية مع سرديات أخرى ترى أنّ القوات المصرية، رغم ما حققته من نجاحات، إلا أنها تعرضت أيضاً لانتكاسات لاحقة، وربما هذا ما جعل الباحث يعزف عن هذه الأسئلة، أنه ظل يقتصر في تأريخه الشعبي على فكرة صغيرة تربط الشعبي بالناس ومواقفهم الشجاعة، دون أن يحاول توسيع فكرة الشعبي وربطها باليومي. كما أنّ المؤلف لم يتح لنفسه فرصة الاطلاع على مراجع أخرى كُتِبت لاحقا عن الحرب، مثل المذكرات، خلافا للمراجع (المجلات) التي اعتمدها، والتي رصدت ردود الفعل السريعة عن مشهد 6 أكتوبر، ما أفقدنا فرصة التعرف على الآثار الجانبية لأكتوبر، وحدّ من سيرته الشعبية.
ولعل العودة للمذكرات التي كُتِبت عن أكتوبر، خارج مذكرات الجنود والضباط، هو أمر مهم قد يتيح تصورا آخر للناس عن الحرب ويومياتها.
واللافت في هذا السياق، أنّ هذا الأمر مثلا شغل بال السوريين الذي عاشوا تجربة 1973، ما وفر لنا فرصة لفهم تاريخ آخر ليومياتها بعيدا عن عناوين البطولة. وأشير هنا إلى كتاب الروائي السوري الراحل خيري الذهبي «من دمشق إلى حيفا: 33 يوما في إسرائيل» الذي روى فيه سيرته (استاذ من دمشق موفد للتدريس في مدينة نائية شمال سورية/الحسكة) في الفترة التي سبقت أكتوبر. فخلافاً للصورة التي حاول الباحث الريان رصدها حول قناعة الناس العاديين بحتمية الحرب وانتظارها، بدا الأستاذ غير مقتنع بقدرة النظام على خوض المعركة. فهو عشية الحرب، يلتقط صورا عن الفساد في النظام التعليمي، وعن تغلغل البعثيين، وتراجع أحوال الفلاحين، وهي ظروف لم تكن في رأيه مناسبة لخوض معركة، فالحرب تحتاج إلى شروط أفضل. ولن يظل هذا الاستاذ يراقب حرب أكتوبر 1973 من مدرسته وتأثيراتها على حياته، بل ستدفعه الأقدار ليغدو شاهداً على هزيمة السوريين في جبهة الجولان بعد عدة ساعات من البسالة. فقد وصل الإسرائيليون في 6 أكتوبر إلى كناكر (تبعد حوالي 25 كيلومترا عن دمشق) في الوقت الذي كانت الإذاعة السورية تتحدث عن نصر مؤزر.
يروي لنا أنه عندما التحق بالجيش قبل المعركة بعدة أشهر، لم يكن يسعى لتحرير الأرض، وإنما كان التحاقه نابعاً من الرغبة في إمضاء فترة عسكريته وممارسة التدريس في الوقت نفسه، أي «ضرب عصفورين بحجر». وهذا لا يعني أن الذهبي لم يكن راغبا بهزيمة إسرائيل، وإنما بدا مقتنعا باستحالة النصر في ظل الأجواء السلبية التي كانت تعيشها البلاد آنذاك. وبعد اندلاع الحرب، لم تمض سوى عدة ساعات، حتى وجد نفسه أسيرا لدى الإسرائيليين، ما جعله يعيش يوميات طويلة مع عدد من الضباط والجنود السوريين الأسرى. وهنا سيكتب لنا عن تاريخ آخر للجنود أيضا، غير تاريخ البطولة المولعين بسرده. ففي السجن، أصبح الضباط والجنود مؤمنين بالمعجزات والأساطير، وباتوا يرون في تكرار قراءة سورة قرآنية معينة 3000 مرة، فرصة لفتح بوابات السجن! كما سيروي لنا قصصا عن أحد الجنود الأسرى الذي كان يأكل حصص أصدقائه في السجن. وهذا ما يعكسُ فكرة أنّ الحرب مكان للقسوة والإبادة، التي قد تدفع بالمشاركين فيها إلى القيام بتصرفات غير متوقعة، ولعل رصدها لا يعني النيل من الأمة، وإنما يكشف أنّ للحرب ألف وجه ووجه، وإنها بقدر ما تكون أحيانا أمراً لا مفر منه للدفاع عن الجماعة ومصالحها، فإنها تحمل كذلك في تواريخها اليومية مئات القصص والآلام والتفاصيل الصغيرة. وهي تفاصيل من الضروري الإحاطة بها، عوضا عن القول إنّ الأمة لا تُصنع إلا بالتضحيات، وكأن هؤلاء الضحايا ليسوا سوى أرقام، دون تواريخ أو أحلام. ومن هنا وجب الثناء على دعوة المؤلف لكتابة سيرة شعبية للحروب، كونها قد تتيح لنا قراءة عالم الحرب بعيدا عن خطاب النصر والبطولة. فـ»الحرب أول ما تكون فتية.. تسعى بزينتها لكل جهول.. حتى إذا استعرّت وشبّ ضرامها.. عادت عجوزا غير ذات خليل/امرؤ القيس»…