فلسطين كقطعة من الفحم
تَوَارَتْ، منذ انطفاء الانتفاضة الأولى، أوائل تسعينيات القرن الماضي، وبداية عهد أوسلو، رموزٌ فلسطينية عديدة، رُكنت جانباً، مع حزمة واسعة من الأغاني، ولو أنها ظلت تعود وتطلّ برأسها من وقت لآخر، بين معركة وأخرى موسمية. منذ ذلك الوقت، أي منذ حوالى ثلاثين عاماً، ظهرت موجات من السخرية والاستهتار بما اعتُبر رموزاً نضالية مباشرة، فجة وصارخة. لا شك أن لأوسلو، الاتفاق الذي جاء خاتمة محبطة لسنوات نضال مضيء، في وقت كان عليه أن يُتَوِّجَها، أثراً في الاستخفاف برموز ازدهرت في كل بقاع الأرض بفعل الانتفاضة، التي دخل اسمها هي الأخرى قواميس اللغة والتاريخ. ثم جاء الانسحاب العربي، متذرّعاً بانسحاب الفلسطينيين أنفسهم، ليزيد المسافة، ليبعد رموز القضية عن الأنظار، بل إن كلمة «القضية» نفسها باتت محطّ سخرية. القضية برمّتها توارت خلف برامج وشعارات عربية جديدة تحت عنوان «نحن أولاً»، والمفارقة أن هذه الدعوات كانت تَرْفَع، بحق، لواء الحرية، ذلك أن الأنظمة العربية لطال ما وجدت في فلسطين ملاذها، فلبنان أولاً كانت تعني التحرر من وصاية النظام السوري، وبالطبع من شعارات «حزب الله» الذي باسم فلسطين ذبح لبنانيين وسوريين، بل وفلسطينيين، لذلك ستجد اليوم في كل تظاهرة احتجاجية في إيران، حتى في تشييع معارض، هتاف: «لا غزة، ولا لبنان، أضحي بحياتي من أجل إيران». ولا يجب أن يدفع ذلك إلى النقمة على المحتجين الإيرانيين، فهذه هي تماماً جناية نظامهم، لا جنايتهم.
ما دام العالم راكضاً ومثابراً لإخفاء جزء من هويتك، فليس أقل من أن تكونها
الربيع العربي، الحلم العربي الجديد، أيضاً كانت فحواه، تقريباً، تصبّ في «بلدنا أولاً»، ولم تعد لا فلسطين، ولا رموزها على قائمة الأولويات.
ومع ذلك كان كثر من بين أنصار القضية مَن هتف بشعارات الربيع العربي، لإدراك عميق بأن عواصم عربية حرة، ستكون، على الأقل، أكثر رأفة بفلسطين، من عواصم ديكتاتورية متوحشة.
في النتيجة، أُهملت الرموز حتى لو لم يكن المقصود تنصّلاً من القضية، وربما كان هناك بحث دؤوب من الأجيال الجديدة لابتكار رموزها من جديد، على نحو ناعم وهامس. على نحو تلك التحويرات اللطيفة المعاصرة التي جرت للمطرزات الفلسطينية، التي انتقلت من ثوب فلاحي تقليدي، إلى حقيبة يد نسائية تحاكي ماركات عالمية، أو كيف استثمرت الكوفية في أزياء معاصرة احتلت عروضها خشبات عروض عالمية.
قد يكون أحد أسباب تواري تلك الرموز أيضاً أنك تعيش في بلاد عربية، أو إسلامية، وسيبدو فائضاً عن الحاجة أن تجابههم بتلك الرموز، فهي (بعضها على الأقل) رموزهم أيضاً. وهذا ما كان يعنيه محمود درويش عندما رفض إلقاء «سجل أنا عربي» في عواصم عربية. فالقصيدة كانت صرخة في وجه الموظف الإسرائيلي، ولن يكون لها معنى يذكر أمام المواطن العربي.
اليوم، مع الحرب الإسرائيلية المتجددة على غزة، وكذلك على الضفة الغربية، نشهد في الغرب حرباً موازية متواطئة ضد كل تعبير فلسطيني، في فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص، على نحو لا يصدق، ولم نكن نتخيّله، بل إننا نشعر، وللمرة الأولى في هذه البلاد، بالخطر على مستقبل أبنائنا. وأعترف، للمرة الأولى في حياتي أجد أن لا بدّ من العودة إلى تلك الرموز، من البحث عنها في الأساس.
ما دام العالم راكضاً ومثابراً لإخفاء جزء من هويتك، فليس أقل من أن تكونها، أن تكون العلم بألوانه الأربعة، خريطة فلسطين، والكوفية (بالأبيض والأسود)، والبرتقال اليافاوي، ومفتاح العودة، وطائر الشمس الفلسطيني، والخيمة، وشعار وكالة غوث اللاجئين (أونروا)، غصن الزيتون، حنظلة، جمل المحامل، المقلاع، كوشان الأرض، التطريز الفلسطيني، المسجد الأقصى، البطيخة، والأسلاك الشائكة، أداة النداء خَيّا،..
ربما كان هناك بحث دؤوب لابتكار الرموز من جديد، على نحو ناعم وهامس. على نحو تلك التحويرات اللطيفة المعاصرة التي جرت للمطرزات الفلسطينية، التي انتقلت من ثوب فلاحي تقليدي، إلى حقيبة يد نسائية تحاكي ماركات عالمية
هل عدنا إلى لغة خشبية؟ هل بتنا في زمن آخر؟
لم لا؟ إنه أضعف الإيمان، لا بدّ من إيقاد قطعة الفحم الفلسطينية تلك، إلى أن يأتي زمن جديد، أكثر عدلاً ورأفة.
أنا يوسف يا أبي
في كل يوم من يوميات غزة هناك قصة تشلع القلوب، اُنظر إلى قصيدة الرثاء المبدعة الرهيفة التي أطلقتها أم يوسف، الولد الفلسطيني الذي قضى في غارة إسرائيلية: «يوسف، شعره كيرلي وأبيضاني، وحلو». كان قلب الأم يرثيه سلفاً بتلك العبارة. عبارة طافت على الفور، أرجاء البيوت ومواقع التواصل، كما طاف الفيديو، الذي يصوّر بحث والده الطبيب عنه في المشفى، إلى أن يصعق بالعثور عليه عبر استرجاع صور من كاميرا لصحفي، ثم صراخ أخيه الطفل: «بدّي يوسف»، كأنما: «أريده حياً».
فيلم قصير، كما لو أنك أمام نسخة مأساوية من برامج تلفزيون الواقع.
لا يشبهه إلا فيلم وائل الدحدوح، مراسل «الجزيرة» في غزة، الذي شاهدنا نحن وإياه، في اللحظة ذاتها، على الهواء، خبر استشهاد بعض أفراد عائلته في غارة إسرائيلية. يأتي الخبر، ثم محاولات الإسعاف، والبحث عن ناجين من العائلة، ثم التشييع، كل ذلك أمام أعيننا.
بكينا، شتمنا، غصصنا، أخفينا دموعنا، وبقي هذا الجبل الغزاوي شامخاً: «بينتقموا منا في الولاد! معليش»، يقولها ثم يتابع البحث، وتضميد الجراح، وعناق الأحبة الراحلين، والتشييع. وبين كل خطوة وأخرى يقف أمام كاميرا «الجزيرة»: عشرات، بل مئات الغارات، والضحايا هم آلاف الأطفال والنساء والجرحى والنازحين.