من أعلام النقد الأدبي الروسي ” روزانوف “
النقد الادبي الروسي وتاريخه وأعلامه لا زال في بداياته الاولية ليس الا في مصادرنا العربية بشكل عام , ولا زال غير واضح المعالم رغم الكتابات عنه هنا وهناك بالعربية , وأخص منها بالذكر كتابات المرحومة أ. د. حياة شرارة ( كتابها المعروف عن بيلينسكي الذي اصدرته ضمن اصدارات سلسلة أعلام الفكر العالمي في بيروت وأعادت اصداره في بغداد مؤسسة المدى اخيرا ) والمساهمات الكبيرة لكل من د . جميل نصيف التكريتي وكامران قره داغي والمرحوم أ. د. محمد يونس و المرحوم أ. د . جليل كمال الدين والاخرين في هذا المجال الحيوي الكبير , والكتاب الشامل الذي ترجمه عن اللغة الروسية الى اللغة العربية بشكل رائع الاستاذ الدكتور رؤوف موسى الكاظمي الذي اصدرته دار المأمون عام 2010 بعنوان ( تاريخ النقد الادبي الروسي ) , و الذي يعد من وجهة نظرنا اول واكبر محاولة علمية في مجال الترجمة عن اللغة الروسية في العراق , والكتاب هذا هو خطوة رصينة جدا وموضوعية وشاملة بكل معنى الكلمة حول هذا الموضوع المهم والكبير والجديد فعلا في لغتنا العربية ( تناول الكتاب حركة النقد الادبي الروسي خلال ثلاثة قرون باكملها في روسيا منذ بدايات القرن الثامن عشر الى نهايات القرن العشرين) .
نحاول في هذه السلسلة من المقالات تسليط الضوء بشكل عام على عدة اسماء من أعلام هذا النقد الادبي غير المعروفين كما يجب للقارئ العربي حسب معلوماتنا المتواضعة ونتمنى ان تسنح لنا الفرصة والظروف بالاستمرار في ذلك العمل واكمال هذه السلسلة المهمة حول أعلام النقد الادبي الروسي , والذي نأمل ان تضيف معلومات جديدة فعلا و معمقة في هذا العالم الجديد بشكل عام في سماء النقد الادبي الروسي عندنا.
الاسماء في هذا المجال كثيرة هنا بالطبع بلا شك , ونبدأ بالناقد الادبي والفيلسوف الروسي روزانوف ليس الا , دون اي تحديد او اعتبار محدد , اذ اننا يمكن ان نتناول النقاد الآخرين لاحقا .
ولد فاسيلي فاسيلوفيتش روزانوف عام 1856 في الامبراطورية الروسية وتوفي عام 1919 في روسيا السوفيتية , وهو فيلسوف قبل كل شئ , واستطاع ان يربط و بابداع كبير الفلسفة بالنقد الادبي , واصبح في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين واحدا من ألمع المثقفين الروس في هذين المجالين المذكورين .
درس روزانوف في كلية الاداب بجامعة موسكو وتخرج عام1882 , ولم يرغب ان يستمر بدراسته العليا , ورفض أداء امتحان الماجستير , وقرر ان يعمل كما يريد وبشكل حر , وهكذا ابتدأ بمسيرة حياته و اصبح مدرسا في المدارس الثانوية الروسية , وانتقل بالعمل بين العديد من المدن الروسية , وكان في ذلك الوقت يخطط ويفكر بشان مشاريعه الثقافية اللاحقة في مجال الابداع الفكري , وفعلا أصدر كتابه الاول عام 1886 , وكان يتناول طبيعة وحدود العلم باعتباره تجسيدا للمعرفة المتكاملة للانسان واعماقه , وهو كتاب فلسفي بحت بكل معنى الكلمة , ولكن هذا الكتاب لم ينل النجاح الذي كان يطمح اليه المؤلف , وهكذا توصل روزانوف بعد تأملات فكرية عميقة طبعا الى الفكرة التي سيكرس لها بقية حياته , وهي ضرورة المزج بين الفلسفة والنقد الادبي و الكتابة في الصحافة , انطلاقا من جوهر الفلسفة المسيحية التي كان يؤمن بها ايمانا راسخا , والذي سيصبح لاحقا واحدا من أعمدتها , ووجد روزانوف في دستويفسكي ضآلته كما يقال ( اذ ان دستويفسكي هو كاتب وفيلسوف مسيحي في آن واحد كما هو معروف ) .
وأصدر عام 1891 كتابا بعنوان ( اسطورة المفتش الاعظم عند دستويفسكي ) ( يسمونه في بعض الترجمات بـ المحقق الاعظم / المفتش العظيم / المفتش الكبير . . الخ ) , والذي تناول الفصل المشهور في رواية دستويفسكي ( الاخوة كارامازوف ) , وهو الموضوع الذي أثار اهتمام الفلاسفة الروس جميعا ( وليس الروس فقط ) , وهذا هو الكتاب الذي أعلن فيه روزانوف وبشكل ساطع ميلاده باعتباره فيلسوفا و ناقدا ادبيا جديدا , وكان من الطبيعي ان يقترب من الفيلسوف والمفكر الروسي الشهير بيرديايف ومدرسته الفلسفية ( انظر مقالتنا بعنوان بيرديايف ودستويفسكي ) .
واستطاع روزانوف في بداية القرن العشرين , وبالذات في اعوام 1901 – 1903 ( وبالتعاون مع الناقد الادبي والفيلسوف ميرشكوفسكي و الناقدة والاديبة المعروفة ناديجدا غيبيوس ) ان يشكٌل جمعية دينية فلسفية في روسيا , خصوصا وانه أصبح صحفيا بارزا نتيجة عمله ونشاطه الفكري المتنوع بمجلتين اساسيتين في روسيا آنذاك وهما مجلة ( روسكي فيستنك ) ( البشير الروسي ) ومجلة ( روسكويه أبروزافانيه ) ( التعليم الروسي ) و في جريدة (نوفويه فريميا ) ( الزمن الجديد ) , اذ انه نشر في كل هذه الاصدارات الدورية العديد من المقالات المهمة , والتي اثارت انتباه القراء الروس الى افكاره المتميزة والاصيلة في هذه المجالات الفكرية الكبيرة , ومن الضروري الاشارة هنا الى مقالاته المهمة والحيوية فعلا حول التعليم في روسيا في مجلة ( روسكويه أبرزفانيه ) ( التعليم الروسي ) , واصداره عدة كتب في هذا المجال , ومنها كتابا بعنوان ( التربية والثقافة ) عام 1899 , وكتابا آخر بعنوان ( الطبيعة والتاريخ ) عام 1900 , ولا يمكن لنا التوقف تفصيلا عند هذه النقطة , اذ اننا نهدف الى التحدث عن النقد الادبي الروسي ودور روزانوف في مسيرته .
منذ الكتاب الذي أشرنا اليه اعلاه حول دستويفسكي , بدأت مساهمات روزانوف تبرز في مجالات النقد الادبي , وقد كان يتناول بالاساس نتاجات غوغول ودستويفسكي وتولستوي وذلك لان هناك في ابداعات هؤلاء توجد دائما ملامح فلسفية واضحة المعالم, وكان يبحث عنها ويجدها ببساطة , بل انه أصدر كتابا خاصا بعنوان ( تولستوي والكنيسة الروسية ) بعد وفاة تولستوي بسنتين ( اي عام 1912 ) , ولكن هذا لا يعني ان روزانوف لم يكتب عن بقية الادباء , ويوجد قول له أصبح مأثورا في الاوساط الادبية الروسية وهو ( بوشكين في السجن سيكون وضعه جيدا . . ليرمنتوف في الجنة سيكون وضعه سيئا ) , وهو قول صحيح ودقيق حول طبيعة نتاجات هذين الاديبين الكبيرين .
ختاما لهذه الملاحظات العامة حول روزانوف نود الاشارة الى ان هذا الفيلسوف والناقد الادبي كان بعيدا عن اجواء ثورة اكتوبر الروسية عام 1917 , ولكنه لم يترك روسيا كما فعل معظم المثقفين الروس آنذاك , وانعزل عن الاحداث وتوفي في روسيا عام 1919 , وكان بوضع تعيس جدا , ولم يطبعوا مؤلفاته اثناء الحكم السوفيتي طبعا , ولكن هذه المؤلفات تم طبعها من جديد في تسعينيات القرن العشرين وظهرت بـ 29 مجلدا منذ عام 1994 الى عام 2010 , واعيد طبع الكثير من كتبه بشكل مستقل , واسمته الموسوعة الكبرى للشعب الروسي بـ ( المفكر الروسي ومؤرخ الادب ) , وقدٌمه القاموس البيبلوغرافي على اعتباره ( ناقدا ادبيا كبيرا ) , وكتب عنه القاموس التربوي عام 2010 مشيرا الى انه كان ( فيلسوفا وكاتبا وتربويا ) , وأشاد الجميع بحواراته ومراسلاته مع كبار الفلاسفة والادباء الروس امثال بيرديايف وبلوك وميرشكوفسكي والآخرين .
روزانوف باختصار علم من أعلام النقد الادبي الروسي , ويستحق ان ندرس كتاباته ونترجمها الى العربية , وان نوليها مكانتها اللائقة بها في تاريخ هذا الادب.
بقلم الكاتب
أ.د ضياء نافع