الرسائل الخفية والمعلنة في خطاب حسن نصر الله
الكل كان بانتظار كلمات السيد حسن نصر الله التي قالها في خطابه يوم الجمعة 3 نوفمبر الجاري، أمام حشد كبير من أنصاره في العاصمة اللبنانية. الأعداء قبل الاصدقاء كانوا يترقبون كلمات الأمين العام لحزب الله، وقد قام خبراء مختصون بشؤون الشرق الاوسط في واشنطن، وتل ابيب بتحليل الخطاب وقراءة الرسائل التي بعث بها نصر الله للجميع.
عبر سرده للوضع الفلسطيني المتأزم الذي تحول إلى معضلة منسية في الشرق الأوسط، قدم نصر الله أسباب ما جرى يوم 7 أكتوبر في عملية طوفان الأقصى، فالحصار القاتل على غزة منذ سنوات، وملف الأسرى الفلسطينيين المنسيين في سجون الاحتلال، وأراضي الضفة الغربية التي قضمتها وتقضمها المستوطنات الإسرائيلية المنتشرة كالسرطان في أراضي السلطة الفلسطينية، بشكل غير قانوني، كلها مثلت ملفات دافعة بقوة للخطوة التي اتخذتها المقاومة الإسلامية الفلسطينية في معركتها الأخيرة، والتي شلّت العدو بالمعنى الحرفي للكلمة وجعلته يتخبط في ردود أفعال هستيرية مجنونة.
الخلاصة أن إيران وحلفاءها يدعمون المقاومة الإسلامية في فلسطين، لكنهم لا يسعون لتحويل الصراع إلى حرب إقليمية، لكنهم يبقون جاهزين في حال تمادت إسرائيل في غيها
وكانت إشارة كلمات الخطاب واضحة لا لبس فيها، في ما يخص اتخاذ قرار المعركة الأخيرة والتخطيط للعمليات وتنفيذها، إذ قال نصر الله بشكل واضح إن عملية «طوفان الأقصى» كانت عملية فلسطينية مئة في المئة تخطيطا وتنفيذا، وبالطبع أشار إلى الدعم المعنوي والمادي والموقف الساند الذي تتخذه إيران وقوى المقاومة الإسلامية في العراق وسوريا ولبنان واليمن للمقاومة الإسلامية في فلسطين، لكن كل ذلك لا يعني أن أي طرف من هذه الأطراف تدخّل، أو طلب أو حرّك حماس لتنفذ عملية «طوفان الأقصى». كما نفى نصر الله مقولات تطرحها بعض الجهات حول ما جرى واعتباره ورقة ضغط إيرانية ملحقة بمفاوضات ملف البرنامج النووي الإيراني. وبعد أن أشاد الأمين العام لحزب الله بدور فصائل المقاومة في سوريا والعراق، التي وجهت ضرباتها للوجود الأمريكي في البلدين، أشاد بدور حركة أنصار الله الحوثية في اليمن، التي أرسلت صواريخها ومسيراتها على طول البحر الأحمر مستهدفة ميناء إيلات الإسرائيلي الاستراتيجي، وأشار نصر الله إلى أن إسقاط هذه الصواريخ والمسيرات لا يعني إنها ستتوقف، بل إنها ستصل إلى أهدافها في المرات المقبلة حتما. إن تخوف واشنطن وتل أبيب من احتمال التصعيد، هو ما جعلهما تترقبان خطاب نصر الله وقراءة رسائله الخفية بين السطور، خصوصاً أن حكومة نتنياهو تصر على الاجتياح البري لقطاع غزة، بينما تنصّب نصائح لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي، لحكومة نتنياهو، على أن تركز جهودها في عمليات دخول وانسحاب محدودة ومتعددة، لأن الاجتياح الكامل من دون خطة واضحة الأهداف سيكون عالي التكلفة، وسيثير شهية حلفاء إيران في سوريا ولبنان على فتح جبهة شمال فلسطين التي قد تحيل الصراع في غزة إلى حرب إقليمية خطيرة. لذلك كانت كلمات نصر الله في هذا الخصوص واضحة أيضا، عندما أشار إلى أن حزب الله وفصائل المقاومة الإسلامية الأخرى الموجودة جنوب لبنان قد دخلت المعركة منذ اليوم الثاني لطوفان الأقصى في 8 أكتوبر، إذ نفذت قوات حزب الله عمليات دخول إلى إسرائيل واستهداف الوجود العسكري على الحدود اللبنانية، بالإضافة إلى قصف القواعد العسكرية الإسرائيلية شمال فلسطين، وهنا جاءت رسالة نصر الله الخفية التي مفادها أن صراعا «منضبط الإيقاع» عبر ضربات متبادلة هي أقصى ما يسعى له حزب الله اليوم، وكذلك هو حال طهران الرافضة لتوسيع الصراع في المنطقة.
ورأى بعض المحللين إنه من غير المتوقع أن تنخرط إيران بشكل مباشر في هذه الحرب، ومن المرجح أن تقدم دعما ماديا ومعنويا لحلفائها في المنطقة لمحاربة إسرائيل، بدلاً من التورط بشكل مباشر فيها، خصوصاً في ظل الدعم الدولي الذي تحظى به إسرائيل، إلى جانب عدم وجود مظلة دولية داعمة لها. فمن شأن التدخل الإيراني المباشر أن يؤدي إلى التصعيد مع الولايات المتحدة، وهو سيناريو حذرت منه الإدارة الأمريكية مؤخراً عبر رسالة سُلِّمت لممثل طهران في الأمم المتحدة، مفادها أن دخول إيران المباشر في المواجهة سيُقابل بتحرك عسكري أمريكي مباشر. وقد أشار نصر الله إلى خواء وهزال وتخوف الجانب الإسرائيلي، والرعب الذي تعيشه تل أبيب التي سوقت صورة كاذبة على مدى قوتها العسكرية والتقنية طوال عقود، لكنها بعد صفعة «طوفان الأقصى» مباشرة هرولت باكية تطلب دعم واشنطن، التي قدمت لها المليارات لإنقاذ اقتصادها، وفتحت لها جسرا جويا لنقل العتاد والسلاح، كما هرعت الولايات المتحدة بأسطولها وحاملات طائراتها إلى شرق المتوسط، مهددة حزب الله تحديدا إذا ما تمادى في ضرباته الصاروخية على شمال فلسطين، وكان تصريح القيادات الأمريكية واضحا، بأن سلاح الجو الأمريكي هو من سيضرب لبنان هذه المرة. كما وجه نصر الله رسائله لبعض اللائمين لعدم فتح حزب الله جبهة شمال فلسطين في حرب حقيقية، إذ أشار إلى أن انخراط الحزب في عمليات عسكرية محدودة خفف الضغط عن غزة، وأشار إلى أن «ثلث قوات إسرائيل البرية، ونصف القوات البحرية، وربع القوات الجوية، وما يقارب نصف الدفاع الصاروخي، موجود عند الحدود اللبنانية. وما يقرب من ثلث القوات اللوجستية موجه باتجاه جبهة لبنان، وإن جزءاً من هذه القوات هي من قوات النخبة والجيش النظامي». وأضاف نصر الله أن المستوطنين الذين تم إخلاؤهم من شمال إسرائيل وجنوبها يشكلون ضغطاً معنوياً واقتصادياً على حكومة نتنياهو. وطالب بدوره الحكومات العربية والإسلامية بالعمل من أجل وقف إطلاق النار وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وقطع النفط عنها. لكن تجدر الإشارة إلى أن تخطيط الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، الذي تم عام 2022 والذي فتح ملف استثمار الغاز في حقول شرق المتوسط أمام لبنان وإسرائيل، والذي يعد بتغييرات اقتصادية كبرى جعل الصراع بين حزب الله وإسرائيل منضبطا وفق قواعد اشتباك خفية، لا تسمح باشتعال المنطقة بحرب شاملة، بل يتم الاكتفاء بضربات متبادلة محدودة التأثير في بعض الأحيان. لذلك نجد أن نصر الله في بيانه المدروس بعناية ينأى بنفسه عن توسيع الحرب، لكنه يضيف أن توسع الحرب يبقى أمرا محتملا، ويحذر من أن «العدو يجب أن يضع ذلك في الاعتبار». كما قال نصر الله أن الوضع قد يتصاعد عسكريا «في أي وقت»، اعتمادا على التطورات في غزة، والتوجه الإسرائيلي تجاه لبنان. مضيفاً أن احتمال توسع الجبهة نحو معركة واسعة هو احتمال واقعي. ويتطور على ضوء أمرين، الأول سلوك إسرائيل في غزة، والأمر الثاني هو سلوك إسرائيل تجاه لبنان. وحذر نصرالله إسرائيل مما سماه «بعض التمادي» الذي فعلته بحق المدنيين قائلاً، إن ذلك «سيعيدنا لمدني مقابل مدني».
وخلاصة ما قاله حسن نصر الله في خطابه، إن حزب الله وحلفاءه في المنطقة سيبقون في حالة مناوشات مع إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية، الداعم الرئيس لتل أبيب، التي خصص نصرالله لها جزءاً من خطابه، قائلاً إن تهديد الولايات المتحدة بأساطيلها لن يخيفنا، وقال: أما «أساطيلكم فقد أعددنا لها عدتها أيضاً». ومن الخلاصة أيضا أن إيران وحلفاءها اليوم يدعمون المقاومة الإسلامية في فلسطين، لكنهم لا يسعون لتحويل الصراع إلى حرب إقليمية، لكنهم يبقون جاهزين لهذا الاحتمال في حال تمادت إسرائيل في غيها وعنجهيتها. وإن الحل الأمثل للازمة هو وقف إطلاق النار المباشر والشامل والعودة إلى طاولة المفاوضات وحل الصراع سياسيا، وفق قواعد حل الدولتين الذي وثقته المعاهدات الدولية منذ عقود.
كاتب عراقي