مسرحية انطون تشيخوف ” بستان الكرز ” أمأساة هي أم ملهاة ؟
د. تحسين رزاق عزيز
أطلق أنطون تشيخوف على مسرحيته “بستان الكرز” تسمية كوميديا , لكن بعد قراءتنا لهذا العمل الفني الخالد نرى انه اقرب لفن التراجيديا منه الى الكوميديا , إذ بدت شخصياتها الرئيسية غايف و أخته رانيفسكايا تراجيدية وقدرهم مأساوي.
اننا لا نرى في مسرحية “بستان الكرز” صراعاً حاداً , أبطال المسرحية يتصرفون بكل هدوء ولم تحدث بينهم صدامات ولا خصوصيات مكشوفة , ومع هذا فالصراع موجود لكنه داخلي ومخفي , ونرى خلف احاديث الابطال الاعتيادية ووراء علاقاتهم الهادئة بعضهم بالبعض الاخر التشتت وعدم الفهم : فدائماً ما تتفوه شخصيات المسرحية بعبارات كيف ما اتفق وكأنهم لا يسمعون من يحيطون بهم.
بيد ان الصراع الأساسي في “بستان الكرز” يكمن في عدم فهم الأجيال بعضهم لبعض , وكأن هناك تقاطع لثلاثة أزمان : الماضي والحاضر والمستقبل , فلكل واحد من الاجيال الثلاثة حلمه الخاص به ، لكنهم يتحدثون فقط ولا يستطيعون فعل شيء لتغيير حياتهم.
ينتسب الى جيل الماضي كل من غايف ورانيفسكايا وفيرس، وللحاضر لوباخين ويمثل جيل المستقبل بيتيا تروفيموف وآنيا.
لوبوف اندريفنا رانيفسكايا ممثلة طبقة النبلاء القديمة دائماً ما تتحدث عن افضل سنوات شبابها التي قضتها في بيت عتيق في بستان كرز جميل ورائع انها تعيش بهذه الذكريات في الماضي فقط والحاضر لا يلائمها، إما المستقبل فهي لا تريد حتى التفكير به , وتبدو لنا سذاجتها وبساطتها مضحكة , والمحزن ان الجيل القديم في هذه المسرحية كله يفكر على شاكلتها , ولا يحاول احد منهم أن يغيِّر شيئاً , فهم يتحدثون عن الحياة القديمة “الرائعة” ويبدون متهادنين مع الحاضر ويتركون كل شيء يسير بعفوية ويستسلمون بلا دفاع عن افكارهم , ويدينهم تشيخوف على فعلهم هذا وموقفهم اللامبالي وهم يرون قيمهم تنهار.
لوباخين ممثل البرجوازية، بطل الزمن الحاضر، انه يعيش ليومه فقط. ولا يمكننا أن نغض الطرف عن أفكاره الذكية والعملية , فهو يتحدث بحماس عن تغيير الحياة نحو الافضل وكأنه يعرف ماذا عليه أن يفعل , ولكن ذلك ليس إلا كلام ليل يمحوه النهار , وحتى لوباخين لا يبدو بطلاً مثالياً في المسرحية , إذ يشعر بعدم ثقته بنفسه مع انه في نهاية المسرحية يستسلم للقدر ويقول :” أما آنَ لحياتنا الخرقاء التعيسة ان تتغير ” .
قد يتراءى للبعض أن آنيا وبيتيا تروفيموف هما امل الكاتب بالمستقبل ولكن هل من الممكن ان يكون شخص مثل بيتيا تروفيموف “الطالب الابدي” و “السيد المنسلخ” قادراً على تغير الحياة ؟ فالذي يستطيع ان يقترح الافكار الجديدة ويلج المستقبل ويقود الآخرين خلفه هو الذكي فقط والنشيط والواثق من نفسه، أي رجل القول والفعل معاً , بيتيا شأنه شأن أبطال المسرحية الآخرين يتكلم اكثر مما يفعل، وهو يتصرف بطريقة خرقاء مضحكة، أمّا آنيا فهي لا تزال بعدُ صغيرة ولم تخبر الحياة جيدا لكي تغيرها.
ان المأساة الرئيسية للمسرحية لا تكمن في بيع البستان والعزبة التي قضى فيها الناس شبابهم وارتبطت بهما احلى ذكرياتهم فحسب بل أيضاً في عدم قدرة أولائك الناس انفسهم على تغيير شيء لتحسين وضعهم , اننا بلا شك نتعاطف مع لوبوف اندريفنا رانيفسكايا ولكن لا نستطيع غض الطرف عن سلوكها السلبي والاخرق احيانا , ونشعر دائما بعدم منطقية الاحداث الجارية في المسرحية , ولا يبدو لنا معقولاً تعلق رانيفسكايا وغايف بالاشياء القديمة اما شارلوتا فنراها مجسدة للضياع في هذه المسرحية .
ليس في المسرحية ترابط للأزمان ولو قام الجيل الجديد بزراعة بستان جديد لحل المستقبل الافضل.
لقد كتب انطون تشيخوف مسرحية “بستان الكرز” قبل ثورة عام 1905 لهذا فالبستان يعد تجسيدا لروسيا ذلك الزمان، وعرض الكاتب في هذه المسرحية قضايا طبقة النبلاء التي تقهقرت الى الوراء والبرجوازية والمستقبل الثوري , ولكن اهم ما تناولته هذه المسرحية هو انهيار الطبقة الارستقراطية “طبقة الاقطاعيين” وحلول شريحة التجار سريعي الثراء بديلاً عنها (وقد تنبأ بذلك قبله غوغول في “النفوس الميتة”).
ورغم كل سلبيات ممثلي الماضي (الاقطاعيين) يتعاطف قارىء المسرحية ومشاهدها مع النظام القديم واتباعه بسبب احساسهم العالي بتراثهم الثقافي وحبهم للجمال وبسبب بشاعة ممثل الحاضر التاجر لوباخين عديم الملامح والذي لا تهمه سوى مصلحته الشخصية , ويبقى هذا العمل الفني خالداً إذ تُعرض المسرحية في المواسم كلها ليس في روسيا وحدها بل في مختلف مسارح العالم المتقدم والعالم المتخلف لانها ملكا ابداعياً للبشرية جمعاء لا لشعب واحد.