رحلة البحث عن إيثاكا
ضرغام الدباغ
إيثاكا )Ithaca )هي مدينة الحكمة، أو هكذا تعامل معها الكتاب والمؤرخون. ويبدو أن الوصول إلى
إيثاكا كان يومئذ سفر محفوف بالمخاطر والصعوبات يمر عبر أراض وعرة وجبال وغابات، والمجهول
الذي يكمن في كل خطوة فيها، ثم هناك البحر الذي لابد من عبوره إلى مدينة العلم والفلاسفة
والحكماء، وكان فيها ملك )أوديسييوس( يرعى الأدب والفلسفة وبعيد عن الحروب)عدا مشاركته
المأثورة في حروب طروادة(، ولا يتجشم عناء هذه السفرة، سوى من يرى أن المجازفة تستحق لتعلم
الفلسفة، ولكن بطول مسافة الطريق ومروره الحتمي بالعديد من المدن، والزمن الطويل الذي
تستغرقه الرحلة، وعبور البحر إلى الجزيرة التي
تضم مدينة إيثاكا، كانت لوحدها كانت تزود المرتحل
إلى إيثاكا بالكثير من المعارف والرؤى والأفكار،
ويتيح له الوقت الطويل، التأمل، وأستنباط الجديد،
أو تحقيق خطوة في س بيل اكتشافه. وأحداث
تضيف ذلك القدر البسيط جداً وومضة وعي
لتتضح الرؤية، أو لمسة على لوحة الفكر لتنفتح
شبابيك كانت مغلقة ويدخل الضوء لينير زاويا
صغيرة ، وقد تكون صغيرة جداً ولكنها كافية ليصيح
المرء …. لقد وجدتها …
إيثاكا كانت تربة حرة / خصبة للأفكار، كل ما فيها
يدعوك لتفكر ..أولاً من حيث المعطيات
الموضوعية المتمثلة كون المدينة تقع في جزيرة
معزولة عن البر الأغريقي / اليوناني، والأخرى أن
شعب المدينة كان مسالماً ولبعده عن ساحات
الحروب نشأ فيها مجتمع مديني لا يميل للنزاعات
والصراعات، وكان ملوكها م ن نتاج هذه المعطيات،
فنشأت بؤرة ثقافية تحتضن الفكر والمفكرين،
فالرحلة إلى إيثاكا لمن تكن تعني الحروب والتحالفات السياسية قطعا،ً وبنسبة قليلة أن يكون هدف
السفر إليها تجاري، فالمسافر إلى إيثاكا هو إذن باحث عن الحقيقة على الأرجح … ومثله يذهب غالباً
بدون مرافقة، يحمل زاده معه ويمضي قاصداً إيثاكا الفكر والفلسفة والمعرفة، ومتجشماً العناء وهول
المخاطرة حباً وإخلاصاً بالعلم والمعرفة..
قسطنطين كفافيس أو “كونستانتينوس بترو كفافيس” )29 / نيسان أبريل 1863 – 29 / نيسان أبريل
1933( هو واحد من أعظم شعراء اليونان المعاصرين، وهو مصري / يوناني. غير نمطي، انتقد
المسيحية والوطنية الشوفينية والميول الجنسية المستقيمة.
يعبر كفافي في شعره عن التلاقي المشترك لعالمين: اليونان الكلاسيكية، والشرق الأوسط القديم،
ً وتأسيس العالم الهيلين ا لكل من الأرثوذكسية والإسلام،
ًدا خصب
ي، والأدب الأسكندري الذي كان مها
والسبل التي تدفع بشعوب المنطقة – على اختلاف أساليبها – نحو الكمال الإنساني.
كفافي كان بذاته نتاج بيئات وثقافات البحر المتوسط العديدة، كان مثقفاً بدرجة عالية جعلته يتفاعل
مع الأدب العالمي أيضاً وأجواء مدينة الأسكندرية توفر مثل هذه الأجواء، لم يكن مسيحياً من الصنف
المخلص للكنيسة، وثقافته العالية تحول دون أن يكون عنصرياً أو متعصباً بأي أتجاه، وبهذا المعنى
كان كفافي إنساناً كوزموبولتياً )Cosmopolitan)، لم تكن تشده أية روابط متعصبة، بل غاص في
الفلسفة والثقافة وحلق في أجوائها، حام فوق إيثاكا، وأستلهم منها … قرأها بعمق وأدرك ماذا يعني
أن يكون المرء مخلصاً للحرية ..
كان كفافي يقضي وقته في القراءة والكتابة في منزله، وفي المساء كان يذهب ليجلس مع أصدقائه
من المثقفين في مقهاهم المفضل ” التريانون ” و” أدونيس ” أحد هؤلاء الأصدقاء كتب أن كفافي كان
يقول: ” أنا شاعر، مؤرخ.. أحس بداخلي أصواتا تقول لي أن بامكاني كتابة التاريخ ولكن ليس لدي
الوقت الكافي “، وكتب لبعض أصدقائه أنه بينما كان ينظر من نافذة بيته قال: ” أي مكان أجمل من
هذا يمكن أن أستقر فيه، وسط مراكز الوجود هذه : مبغي، وكنيسة للغفران، ومستشفي يموت المرء
فيه “.
بهذه الكلمات كان كفافي ينظر إلى محيطه، هو كان وجودياً دون أن يعلن ذلك، والثقافة الوجودية
ورموزها من الكتاب الكبار لم يكونوا قد ظهروا بعد بقوة على مسرح الثقافة الأوربية: دان بول سارتر
وسيمون دوبفوار، والبير كامو، وكولن ولسن، رغم أنه كان على درجة تماس جيدة مع الثقافة الأوربية
وكبار رموزها : أرنولد توينبي وت.س. إليوت، ود. هـ. لورنس، وترجمت قصائده إلى لغات عديدة منها
الإيطالية والفرنسية، عدا الإنكليزية والعربية بالطبع.
كفافي أستلهم من إيثاكا وأجواءها، وكتب وأحدة من أجمل قصائده، التي تستحق القراءة أكثر من مرة
والتمعن فيها .. سيجد المرء نفسه في عبرة السفر إلى إيثاكا.
في العودة إلى إيثاكا )*(
قسطنطين كفافي
.1
حين تسمع فجأة .. في منتصف الليل ..
فرق ًة غير مرئية ..
بموسيقى مدهشة .. وأصوات ..
ح ّظك يتعثر الآن .. أعمالك التي أخفقت .. وخطط العمر كلها غدت أوهاماً
لا تبتأس بلا جدوى ..
بل كن مثل من استعد لها منذ زمن … وقل لها بكل شجاعة
وداعاً .. لإيثاكا التي تغادر ..
والأهم ألا تخدع ..
لا تقل أبداً أن لأمر كله كان حلماً , ت
ُ
ّن حججك قد أخطأ
وأ ..
لا تنحني أمام أوهام فارغة كهذه ..
بل … كن مثل من استعد لها منذ زمن ..
بشجاعة من غدا جديرا،ً مثلك، بمدينة كهذه ..
كإيثاكا
إقترب بثبات من النافذة ..
وأنصت منفعلا،ً لكن بغير شكوى الجبناء وتوسلاتهم
أنصت إلى متعتك الأخيرة ..
إلى الأصوات ..
إلى الآلآت المدهشة للفرقة الغامضة ..
وقل وداعاً ..
وداعاً لإيثاكا التي تفقدها.. …..
.2
عندما تبدأ رحلتك إلى إيثاكا
تم ّن طويلا .. أن يكون الطريق
مليئا بالمغامرات والأحداث المثيرة …
لتكن الرحلة فرصة لإشباع شغفك بالم عرفة …
لا تخف من الغيلان والمردة آكلي لحوم البشر
الذين يظهرون في العتمة، أو تلك المخلوقات ذات العين الواحدة. ..المفتوحة في انتظار الفرصة.
واجه بلا خوف غضب بوسيدون )**( وبحاره المتقلبة …
أنك لن تقابل هذه الأشياء التافهة في رحلتك إذا ما أبقيت رؤيتك ثابتة نحو الأفق الذي تريد..
إذا ما بقيت روحك على شهامتها …
سوف لن تقابل هذه الغيلان آكلة لحوم البشر، ذات العين الواحدة
ولن تعاني من تقلبات بوسيدون إذا تخليت عن كل هذه المخاوف معك، الكامنة في أعماق
نفسك …
لن تقابل هذه الأشياء ما لم تستحضرها روحك أمام عينيك …
.3
تم ّن أن تكون رحلتك طويلة
وأن تكون صباحات الصيف تمتد لسنين طويلة
فتبحر إلى مرافيء لم تحلم بها، ولم ترها من قبل
ستبحر إليها في فرح وسلام ويقين هاديء
ّل في كل أسواق فينيقيا التي تقابلها
تجو واشتر من الأشياء كل ما قد تحتاج إليه : من الصدف
والمرجان واللآليء الجميلة والعطور التي تمتع حواسنا …
للمعرفة والتعلم
إلى الاسواق الليبية، حيث السلع الجميلة
تعلم قدر ما تستطيع ……. توقف في كل مدينة وتحدث مع كل من له معرفة ………
ليتسع خيالك وينمو شغفك بالعلم …
لتكن إيثاكا ماثلة دائما في ذهنك ..
والوصول إليها هو هدفك النهائي
ولكن لا تتعجل في رحلتك بأي حال …
الأفضل أن يدوم السفر سنين طويلة
ألق بمراسيك عند الجزر الصغيرة
عندما تكون شيخاً ….. سعيداً بالثروة التي جمعتها أثناء رحلتك
لا تتوقع أن تعطيك إيثاكا أي شيء
إيثاكا أعطتك الرحلة
وبدونها ما كنت بدأت
وليس لديها شيء آخر لتعطيك …
واذا وجدت إيثاكا فقيرة ومعوزة
فهي لم تخدعك …
فمن الحكمة التي اكتسبتها ….
والمعرفة التي حصلتها ….
والخبرة التي صارت جزءا منك …..
سوف تفهم معنى إيثاكا …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إيثاكا : مدينة الحكمة
** بوسيدون : إله البحر والعواصف في الأدب الإغريقي
*** أوديسوس : ملك إيثاكا الأسطوري، كان قد ترك بلدته للمشاركة في حرب طروادة، وهو صاحب
فكرة حصان طروادة الذي هزم الطرواديون.