مشاهد من حال الأمة
المشهد الاول: ترفعُ غزة الستارة عن مسرحها، فتتسمر الضمائر الحية من هول الصدمة، وتبقى الأفواه فاغرة من قسوة المأساة المتراكمة أمامك.. تنداح الصور من الفضائيات حد التعثر بعضها ببعض من كثرتها، فينتابك شعور بأنك غريب جئت للتو من عالم آخر، فتمعن النظر بمن حولك إن كانوا يُشبهونك أم لا، كي تتأكد أنك ما زلت على قيد الحياة.
فبحر الجثث المرصوفة قرب جدران مستشفيات غزة، تأخذ منك كل شعور بأنك ما زلت إنسانا، بعد أن فقد كل العالم إنسانيته إلى هذا الحد. جثث بأسماء مكتوبة وأخرى كتب عليها مجهولة.. أمهات حوامل فارقن الحياة فاستخرج الأطباء أطفالهن الخدج من أحشائهن، وأخريات يجلسن بجانب الجثث ويزحن الأكفان، كي يُقبّلن وجوه أطفالهن الراقدين في حضن الموت، والمتدثرين بأحلامهم التي لم تزدهر.. أولاد يحشرون رؤوسهم قرب رؤوس أمهاتهم وآبائهم الذين غادروا الحياة، ويتمتمون بعبارات لا تستطيع كل قواميس لغات العالم من فك أسرارها.. آلاف الأكف تحتشد لرفع كتل خرسانية سقطت على رؤوس الأطفال والنساء وكبار السن، الذين كانوا آمنين في بيوتهم، فيطل رأس طفل من بين الأنقاض مُدمى الوجه، ما زال يصارع من أجل البقاء.. رجال ونساء في خريف العمر يحملون بقايا حاجياتهم وأغطيتهم الممزقة، يتجهون سيرا على الأقدام من الشمال إلى الجنوب، حيث لا مآوى ولا أمل ببقية حياة، ولا حتى يعرفون إلى أين هم سائرون وإلى متى.. مستشفيات تسقط على رؤوس المرضى، وأجهزة إنعاش تتوقف بفعل انقطاع الكهرباء، وأطباء يجرون عمليات جراحية على الأرض، وسيارات إسعاف تخترقها الصواريخ فتقتل المرضى والمُسعفين.. معابر مُغلقة وأطواق دبابات تحاصر الحياة من كل جانب، والناس يصارعون من أجل رغيف خبز، أو قنينة ماء.
فتية آمنوا بأن النصر صبر ساعة، وأن الفرق بين الحياة والموت مسافة صفر، وأن الحياة مجرد محطة، أو نقطة عبور من حالة إلى أخرى، لذلك يبدعون في إظهار بطولتهم
المشهد الثاني: ترفع القمة العربية الإسلامية الستارة عن مسرحها الصامت منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. فتهدأ فيك ثورة العواطف التي فجّرتها مآسي المشهد الأول، وتُلملم ذاتك من جديد علك تستطيع فهم ما يجري. وهنا لا بد من أنك تستعين بعلمك المحدود في السياسة كي تستطيع أدراك المشهد. فتستحضر معادلات القوة التي سوف تسألك أولا، من هم هؤلاء الذين على المسرح؟ فيأتيك الجواب أنهم زعماء دول عربية وإسلامية، مجموعها 57 دولة من أصل 193 دولة في العالم. وهذا يعني أننا نتكلم عن 30% من دول العالم، اجتمعوا تحت سقف واحد وفي مكان واحد وزمن واحد أيضا. كما أن هؤلاء المجتمعين هم أقرب ما يكونون إلى أهل فلسطين، نسبا، دينا، جغرافية، مصيرا وتاريخا. إذن أليس من حق أهلنا في فلسطين عامة وفي غزة خاصة أن يسألوا، بماذا خرجت هذه القمة؟ يقينا سيكون الجواب لا شيء. لماذا لا شيء؟ لان المليونين ونصف المليون إنسان الذين هم في عين أعتى وأشرس عاصفة، ليسوا بحاجة إلى خطابات كلها كانت، نتصدّى، ونؤكّد، ونُحمّل، ونُحذّر، ونُدين، ونستنكر، ونرفض، ويختمها الرئيس الفلسطيني بالقول إننا نريد الحماية الدولية، بينما كل الحماية الدولية محتشدة مع الصهاينة لقتل شعبه. كما أن هؤلاء الناس ليسوا بحاجة إلى بيان طويل عريض، يحمل تمنيات كل عناصر تحقيقها بأيدي من يقتلون الفلسطيني. فهذه كلها عبارات جميلة عندما لا يكون هنالك وضع مُلح وظرف طارئ، لكن عندما يكون هنالك وضع مأساوي، وإبادة جماعية لشعب في منطقة جغرافية صغيرة، وعلى مرآى ومسمع كل العالم، ثم تخرج قمة عربية ـ إسلامية ببيان تدين وتستنكر وتتصدى وتقول وتُطالب، إنما هو قمة الإحباط. قد يقول البعض بأن هذا التجمع الكبير في مكان واحد، سيشكل عاملا من عوامل الضغط على صانعي القرار الدولي لإيجاد مخرج لهذه الأزمة. نعم قد يكون هو كذلك، لكن ليس في معالجة وضع عاجل يتطلب حلولا طارئة. ألم يكن بإمكان القادة المجتمعين أن يستخدموا سلاح الاقتصاد؟ لقد استخدمه الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز في عام 1973، كذلك فعل الراحلان صدام حسن وفهد بن عبدالعزيز، عندما اتفقا على إصدار بيان هددوا فيه كل دولة تنقل سفارتها إلى القدس بالمقاطعة الاقتصادية، فأفشلا قرار الكيان الصهيوني الذي أعلن عن القدس عاصمة له، وطلب من الدول نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس. ألم يكن بإمكان القمة أن تعلن قرارا فوريا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وطرد سفرائها، والبعض منهم على علاقات جيدة معها؟ قد يقول البعض إن هذه أماني وعواطف ورغبات، وإن المتغيرات الجيوسياسية قد تغيرت من سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم إلى العام الحالي 2023، وسنقول معهم وهو كذلك، لكن أليس من الواجب أن نغير من وسائلنا في تحقيق السياسة أيضا، كي تواكب التغيرات الجيوسياسية التي حصلت؟ فالخطاب العربي والإسلامي هو هو ما زال على حاله، يستنكر ويدين ويشجب ويتحفظ وسيرد في الوقت المناسب، الذي لم يأتي منذ 75 عاما.
المشهد الأخير: شباب في مقتبل العمر يحبون الحياة بكرم باذخ، ما جعلهم يشعرون بأن الآخرين لديهم الشعور نفسه، فوضعوا دماءهم وقودا في محركاتها كي تسير بالآخرين إلى شاطئ الأمل. ينطلقون لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فيذيقون الجيش الذي لا يُقهر صنوف القهر والموت الزُؤام، فينزلون بعملهم هذا كل الكلمات من عروشها إلى أرض الواقع على شكل بطولة ما بعدها بطولة، وشجاعة استثنائية، وإقدام خرافي، ويظهر الإعلان بصنعهم الحياة للآخرين، دون أن تُذكر أسماؤهم. فهل رأيتم إيثارا أكبر من ذلك؟ هل سمعتم نكرانا للذات من أجل المجموع بهذه الصورة؟ أنهم يمزجون النور الذي يملا قلوبهم بالظلمة التي يعيشها أهلهم في ظل الاحتلال، فيتداخلان ويتصارعان ويتصادمان، كي يولد منهما أصرار لا يلين وصلابة وقوة. هنا لن يبقى للتنظير السياسي من معنى، وحتى الكلمات تنسحب من فوق الشفاه خجلا بحضرة الواقع المصنوع بالاستشهاد. فهم فتية آمنوا بأن النصر صبر ساعة، وأن الفرق بين الحياة والموت مسافة صفر، وأن الحياة هي مجرد محطة، أو نقطة عبور من حالة إلى أخرى، أو ربما مسرح، لذلك يبدعون في إظهار بطولتهم فوقه. وحدهم المهزومون يظلون أسرى الماضي، ودائما مستقبلهم خلف ظهورهم.