في غزة: الإنسانية أخفقت في اختبارها الأكبر… والأطفال يلاعبون الموت هناك
غزة، تلك المدينة المقدسة التي تتوج اليوم أمام أعين العالم بمثابة واحدة من أبرز عجائب الله، لا تقتصر عظمتها على ثبات شعبها وإيمانهم وتضامنهم ومحبتهم لبعضهم البعض، بل تتجلى في روحها التي تنبع من دماء الشهداء الذين يدونون تاريخها فوق أكفانهم. إنها مدينة الصمود والإصرار.. هكذا تقف كالجبل الثابت في وجه أكبر العواصف التي يشهدها التاريخ.. تقف مثل فاصل زمني بين الماضي والمستقبل. غزة ليست مجرد مكان جغرافي، بل أصبحت بأطفالها ونسائها وشبانها وشيوخها رمزًا للإرادة والتحدي. علمتنا غزة كيف نقوى على الموت، كيف نتحدى الظروف الصعبة كيف نقوى على العطش والجوع، وكيف نستمد قوتنا من عزيمة شهدائنا. إنهم الأبطال الذين قدموا أرواحهم من أجل الوطن واستعادة حقوقهم في كل حبة تراب. لقد أصبحت، وبفضلهم، تلك المدينة الصغيرة مصدر إلهام للعالم.
الحياة في غزة تعلمنا يومياً دروسًا لن تُنسى.. لقد لقنتنا كيف يمكن للأمل الناشئ من الركام أن ينبت ويزهر. رغم معاناة الحصار والموت الوحشي المتلاحق والدماء المتلاشية على الطرقات، شاهدنا الورود وهي تتفتح من جباه شهدائها.. وكانت رمزاً للحياة التي تنمو من بذرتي الصبر والصمود.
إن مسيرة غزة تعريف دقيق لمعنى الثبات في وجه التحديات. لقد أصبحت رغم أنف الموت مدينة لإعلاء قيم الحرية والعدالة.
إن عالمنا اليوم مدين لغزة وأبنائها.. مدين لأطفالها.. مدين للإنسانية ومدين للتعاطف والرحمة.. المظاهرات لا تكفي.. ومقاطعة منتوجات الشركات الداعمة للحروب لا تكفي.. ومشاركة صور الجثث والأشلاء المقطعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أيضاَ لا تكفي.. نحن اليوم نرى الإنسانية تذبح على أرصفة الطرقات.. نرى المستشفيات تقصف فوق رؤوس الأطباء والمرضى وتحاصر حتى تدخل إليها الكلاب لتنهش الجثث المقطعة بفعل إجرام المحتل ووحشيته. وهذا ما نقل إلينا مباشرة عبر شاشات التلفزيون وشاشات الهواتف المحمولة.
اليوم يشهد العالم موت مرضى السرطان، بعد حرمانهم من أدويتهم واختناق الرضع بسبب انقطاع الأوكسيجين من المستشفيات.. نشهد وفاة جميع مرضى العناية المركزة بمجمع الشفاء.. يشهد العالم نظاماً طبياً يُحرم منه الماء والكهرباء.. ونرى شعباً بأكمله يحتضر إما جسدياً أو نفسياً. نرى بأعيننا مشاهد نكاد لا نصدقها.. نشاهد عبر الشاشة أباً وهو يكشف الكفن الأبيض عن جثة ابنه، ويتساءل: «هيدا ابني أحمد وين راسه..» ونستحيل كلنا دمعة مكثفة أمام الطفلة الصغيرة جوليا وهي تغزل الألم في عينيها الواسعتين وتندد: قصفوا ماما وقصفوني. ونشهق ونحن نتابع خطوات سيدة مسنة تجاوز عمرها التسعين، وهي تنزح للمرة الثانية بعد أن طردت من بيتها خلال النكبة عام 1948 لتعيش اليوم نكبة جديدة. تجر رجليها المثقلتين بأوجاع الدنيا إلى جنوب قطاع غزة. كيف يمكن للمرء أن يعيش في حياة واحدة نكبتين. كيف له أن يموت مرتين ويبعث مرتين. كيف يطرد من دياره مرتين، وكيف يتسع العمر كي يشاهد مرتين مقتل أهله وناسه وجيرانه واغتصاب الأرض ذاتها مرتين؟!
حتى الأحلام أجهضت أحلامها، وبات أقصى الطموحات، على لسان أم فلسطينية، أن تموت وأبناؤها بأجساد غير مقطعة. قالت: كنت أحلم أن يصبح ابني طبيباً، لكني اليوم أحلم أن لا أرى جسده مقطعاً. تلك الأم لا تشرب كباقي أمهات غزة كي توفر نقطة المياه لإرواء عطش أطفالها.
أطفال فلسطين يلهمون العالم
لكن ما لم يشهده العالم أيضًا هو قدرة الأطفال في إحدى مدارس الأونروا على تحويل مكان سقوط الصاروخ المدمر إلى ساحة لعب مليئة بالضحك والفرح. لقد أظهرت تلك الأرواح الصغيرة قوة لا تصدق في تحويل اليأس إلى أمل والدمار إلى فرصة للسعادة. لم ينغمسوا في الخوف والحزن، بل جعلوا من الدمار والصعوبات مدينة ملاهٍ، ومن أضواء الصواريخ ألعاباً نارية تضيء السماء. كانوا يقفزون فوق أنقاض الصاروخ، كما لو كانت تلالا من الرمل، وكأنهم يرسمون لوحة فنية تعبيرية على واقعهم المرير. أما ضحكاتهم البريئة فراحت تعلو فوق أصوات القذائف. إن ذلك المشهد يُظهر بوضوح روح الصمود النابع من قلوبهم الصغيرة وتعلقهم بالأرض. إنها لحظات تلخص تغلب الحياة على الموت. فهي ليست مجرد لحظات من التسلية، بل هي درس حي في حب الحياة وقدرتهم على تحويل الظروف الصعبة إلى أمل وفرح.
وفي ساحة ليست ببعيدة عن تلة الرمل، طفل فلسطيني آخر يعلم أخاه الصغير، الذي قطعت رجله بفعل صاروخ إسرائيلي، المشي بالعكاز. يريده أن يستعيد قدرته على الجري. يريده أن يلعب معه كرة القدم من جديد وأن يجري إلى جانبه في الأزقة والطرقات. وقد نجح في مهمته. نعم تمكن وفي لحظات قليلة من تحقيق رغبته. فلم تمر دقائق على بداية الدرس حتى تمكن الأخ الصغير من حمل عكازتيه كل واحدة بيد والقفز سريعاً باتجاه شقيقه الأكبر. مشهد مبك ومفرح. لا يدري من يراه أي شعور يتغلب فيه على الآخر.. أهو شعور الحزن الذي يفرض نفسه لحظة رؤية الطفل مصابا أم الفرح بقدرة الصغير على تخطي آلامه وتحديها.
ذلك المشهد لا بد أن يذكرنا بقصيدة درويش: سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ.. سقط القناعُ.. لا إخوةٌ لك يا أَخي، أَصدقاءُ.. يا صديقي، لا قلاعُ.. لا الماءُ عندكَ.. لا الدواء، ولا السماء، ولا الدماءُ، ولا الشراعُ.. سقطتْ ذراعك فالتقطها.. وسقطتُ قربك، فالتقطني.
على سرير متنقل طفل يصرخ: لن أموت.. لا أريد أن أموت.. صرخة رغم جروحه الكثيرة وإصابته البالغة كانت ترتجف لسماعها حجارة المدينة.. أطفال فلسطين يستحقون الحياة ككل أطفال العالم.. يستحقون الفرح.. يستحقون أن يتعلموا ويكبروا.. يستحقون أن يناموا على أسرة نظيفة دافئة.. يستحقون أن يأكلوا حتى يشبعوا وأن يشربوا في كل مرة يشعرون فيها بالعطش.
إنهم يستحقون الحياة!