ماكرون والتأرجح السياسي بين الحق والباطل
في الرابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم زار ماكرون تل أبيب. وفيها قال إنه جاء لكي يُذكّر العالم بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولكي يدافع هو عنها أيضا فقد اقترح بناء تحالف إقليمي ودولي لمواجهة المجموعات التي تهدد الجميع حسب قوله. ويقينا كان يقصد المقاومة الفلسطينية في غزة. أما في الحادي عشر من الشهر الجاري فقد غيّر ماكرون من لهجته الخطابية، ففي مقابلة مع قناة «بي بي سي» قال (يوجد مدنيون يُقصفون وهؤلاء أطفال، هؤلاء نساء، وهؤلاء كبار في السن يتعرضون للقصف والقتل، ولا يوجد أي مبرر ولا أي شرعية لذلك، لذا نطلب من إسرائيل التوقف).
ثم تلته المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الفرنسية، لتشدد وتندد باستهداف المؤسسات الصحية في غزة. وزادت على ذلك بأن قالت ليس من حق إسرائيل أن تقرر من سيحكم غزة في المستقبل. فما أسباب التغير في الموقف الفرنسي؟ وهل الرئيس الفرنسي ماكرون فقد البوصلة؟
بدأت الشكوك تراود الغربيين ومنهم الفرنسيون، بما تعرضه إسرائيل من روايات تبرر بها استمرار الحرب. تلك الروايات التي صدّقها وتبنّاها ورددّها أكثر من مسؤول غربي، من قمة الهرم السياسي الى السفوح، ومع تزايد الشكوك والوقائع على الأرض، وتزايد سقوط الضحايا، خاصة من الأطفال الفلسطينيين بدأت نبرة الحديث تتغير، وربما هذا جزء مما اكتشفه ماكرون، لكن لا يمكن إغفال عنصر سياسي مهم هو الذي دفع لتغيير الموقف الفرنسي، فعندما كان ماكرون في إسرائيل الى جانب نتنياهو، عارضا المشاركة في تحالف دولي ضد المقاومة الفلسطينية، داعيا إلى هدنة إنسانية وإيجاد حل سياسي، لم توافق إسرائيل على كل الذي عرضه، وهنا شعر الرئيس الفرنسي بالمهانة والفشل الذريع، كما شعر بذلك أيضا الطاقم الدبلوماسي الفرنسي، خاصة من العاملين في دائرة الشرق الأوسط وافريقيا في الخارجية الفرنسية، التي تُعرف مجازا في أروقة الوزارة باسم الشارع العربي، لأن كادرها يعرف كل كبيرة وصغيرة عن المنطقة العربية. فما كان منهم إلا دق ناقوس الخطر، مُحذرين من مغبة الاستمرار في تأييد ودعم إسرائيل في حربها ضد غزة، فتقدموا بمذكرة داخلية نقلتها صحيفة «الفيغارو» الفرنسية، حيث أعربوا عن أسفهم لانحياز الرئيس ماكرون إلى إسرائيل، مُذكرين بأن هذا الموقف يُعد بمثابة قطيعة مع الموقف الفرنسي التاريخي والتقليدي المتسم بالتوازن بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وواصفين ما قام به ماكرون بأنه سقوط في معسكر إسرائيل خلال الحرب الجارية على غزة. إذن هذا هو السبب الأبرز في التحوّل الذي طرأ على خطاب ماكرون، والذي برز في حديثه مع قناة «بي بي سي»، حيث انتقد بشكل واضح السياسة الإسرائيلية التي تستهدف الأطفال والمدنيين في غزة، ودعا بقوة وصراحة إلى ضرورة أن تنتقل المجموعة الدولية للبحث عن وقف إطلاق النار، وبذلك أصبح من الزعماء الغربيين القلائل الذي يتحدث عن وقف إطلاق النار، بينما الآخرون يتحدثون، إما عن هدنة إنسانية أو عن ممرات إنسانية.
من الطبيعي أن تكون في العلاقات الدولية ضغوطات كثيرة من جميع النواحي، لكن الخط الأحمر الذي يجب عدم تجاوزه هو القانون الدولي، فبتجاوزه تخسر الدول مواقعها
إن قصف المستشفيات وقتل وتهجير السكان ومحاصرة القطاع وتجويع سكانه، كلها جرائم تنتهك قيم القانون الدولي الإنساني، وهو ما وضع التمايز بين الطاقم الدبلوماسي الفرنسي، ورأس الدبلوماسية الفرنسية التي يمثلها ماكرون، فالطاقم الدبلوماسي كان يقرأ موقف الرئيس على أنه خرق للسياسة الفرنسية التاريخية والتقليدية مع العالم العربي. بينما رأس الدبلوماسية الفرنسية كان موقفه من إسرائيل مدفوعا بمجموعة من الرهانات السياسية الداخلية، وهنا حصل التناقض بين الموقف الرسمي الذي يُقرأ على أنه ضوء أخضر لإسرائيل لتقوم بما رآه العالم كله، والموقف الذي يطالب بأن يكون هنالك نوع من الموضوعية والحياد تجاه الحرب، وهنا يبدو واضحا أن الطواقم الدبلوماسية الفرنسية نجحت في تصويب موقف الرئيس مما يجري في غزة. إن العمل الدبلوماسي للدول يُبنى على عاملين رئيسيين هما: مبادئ الدولة ثم مصالحها، بالتالي فإن الطاقم الدبلوماسي بعد أن يتلقى التعليمات السياسية التي تبين سياسة البلاد، فإن من واجبه بعد ذلك لفت انتباه رئيس الجمهورية ووزير الخارجية والحكومة على ما يجب اتخاذه، كي تؤمّن الدبلوماسية مصالح الدولة في أية منطقة من العالم. من هنا وجد السفراء الفرنسيون أن من واجبهم تقديم مذكرة يجلبون فيها انتباه ماكرون إلى المصالح العليا للبلاد، والتأكيد على ضرورة التعامل بموقف متوازن مع واقعة 7 أكتوبر. لكن لو نظرنا إلى السياسة الفرنسية نجد أن تناقضاتها لم تكن محصورة في حرب غزة، كما أنها لم تبدأ بها، بل إن امتعاض الدبلوماسيين الفرنسيين من سياسة ماكرون بدأت منذ قدومه إلى قصر الإليزيه، وكانوا يقولون إنه يقرر لوحده، وهناك تغير في الأداء بصورة إجمالية، لذلك يتفق غالبية المراقبين للشأن الفرنسي، بأن سياسات ماكرون أدت إلى خسارة لموقع فرنسا نتيجة عدم القدرة على لعب دور ريادي دبلوماسي، كما كان في الماضي، فهناك مطبات كثيرة وقع فيها الرجل، خاصة في الشرق الأوسط وافريقيا، والأبرز منها والأحدث هو طرحه فكرة تحالف دولي ضد حماس، شبيه بذلك الذي تم إنشاؤه لمقاتلة تنظيم الدولة في العراق وسوريا، ولأن مقارنته بين الجهتين كانت خاطئة، وانجرارا فاضحا خلف وجهة نظر إسرائيل في وصفها لحماس بأنها شبيه بتنظيم الدولة، فإن اقتراحه ذهب أدراج الرياح، من دون أي اهتمام لا من الدول الغربية ولا العربية ولا من الولايات المتحدة، بل ولا حتى من إسرائيل، لكن الغريب هو أن الرئيس وقع في تخبط آخر، فعندما واجه سيل الانتقادات والسخرية التي انهالت عليه من إسرائيل، بعد تعديل موقفه من الفعل الإسرائيلي في غزة، في حديثه إلى قناة «بي بي سي»، حاول العودة إلى الوراء من خلال الاتصال بالرئاسة الإسرائيلية للاعتذار.
إن من الطبيعي أن تكون في العلاقات الدولية ضغوطات كثيرة من جميع النواحي، وهذا واقع في فرنسا كما في غيرها من الدول الكبرى والصغرى. لكن الخط الأحمر الذي يجب عدم تجاوزه هو القانون الدولي، فبتجاوزه تخسر الدول مواقعها، فالغرب بعد الحرب العالمية الثانية، ادعى أن القانون الدولي أساس يجب أن ترتكز عليه العلاقات الدولية، والغرب ركّز ذلك وجعله حصان المعركة في الحرب ضد روسيا في أوكرانيا، لكنه تغافل عن القانون الدولي في الجرائم التي شنتها إسرائيل على المدنيين في غزة. بالتالي كان هناك نفاق عالمي في هذا الموضوع أثّر الى حد بعيد على موقف وموقع فرنسا في العلاقات الدولية. لكن الرأي العام الفرنسي طرق على هذه النقطة الأساسية، وهي ركيزة العلاقات الدولية في التظاهرات التي خرجت في فرنسا، بالتالي كان من الضروري على ماكرون أن يأخذ بعين الاعتبار هذه المعادلة ويسير عليها بشكل أوضح.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية