كذبة القرن الثانية
على وقع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتدمير الشامل، الذي تعرّض له سكّان غزّة، إثر عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي نفّذتها المقاومة في اقتحام جدار غزّة، روّجت وسائل الإعلام الأمريكية، استنادا إلى الرواية «الإسرائيلية» كذبة القرن الثانية، التي ذكّرت بكذبة القرن الأولى عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. كذبة القرن «الإسرائيلية» تزعم: أن المقاومة قامت بقطع رؤوس أطفال «إسرائيليين» وهذه الكذبة السمجة سرعان ما تبنّاها، دون تدقيق، الرئيس الأمريكي جو بايدن، وكررها وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي خاطب رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو متضامنا معه بصفته يهوديا أيضا، وليس مسؤولا أمريكيا فحسب، وعلى نهجهما سار مدير وكالة المخابرات المركزية وليم بيرنز ووزير الدفاع لويد أوستن وغيرهم.
واستكمالا لهذه الكذبة ادعت «إسرائيل» بعد قصفها مستشفى المعمداني، أن صاروخا أطلقته «حركة الجهاد الإسلامي» سقط على المستشفى عن طريق الخطأ، وأحدث فيها هذا الدمار الهائل. وبرّر الإعلام الغربي عموما، أن «إسرائيل» تدافع عن نفسها، وحق الدفاع عن النفس مشروع ضدّ «الإرهابيين» وكأن قوات الاحتلال هي من يحق لها الدفاع عن النفس ضدّ من تحتلّ أراضيهم وتحاصرهم وتجوّعهم، وتعمل على تدمير مستلزمات حياتهم اليومية بطرق أقل ما يُقال عنها إنها لا إنسانية، وتذكّر، هذه الأعمال الوحشية، بعمليات الإبادة النازية التي تعرّض لها اليهود وشعوب وأمم أخرى، علما بأن قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، تُعطي الحق للشعوب المحتلة أراضيها، باستخدام جميع الوسائل المشروعة، بما فيها المسلّحة لتحريرها. ومثلما عاد الرئيس الأمريكي وتراجع عن مزاعم قطع رؤوس الأطفال، قامت وسائل الإعلام الأمريكية بتبهيت الرواية «الإسرائيلية» بشأن مستشفى المعمداني، بعد التأكد من نوع القنبلة التي ألقيت عليها وحجمها ووزنها، تلك التي لا يمتلكها غير «إسرائيل» في المنطقة. كذبة القرن الثانية تُذكّر بخاطب كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي في مجلس الأمن الدولي يوم 5 شباط/ فبراير 2003 (عشيّة الحرب على العراق) الذي قال فيه: «ما نقدّمه لكم هي حقائق واستنتاجات مبنيّة على استخبارات قويّة تؤكّد امتلاك العراق أسلحة دمار شامل». لم يكتفِ باول بذلك، بل رفع أنبوبة تحتوي على مسحوق أبيض، إشارة إلى الجمرة الخبيثة، وصورا لأقمار صناعية، باعتبارها أدلّة لا يمكن دحضها، مطالبا المجلس منح واشنطن الضوء الأخضر لتنفيذ عمليتها العسكرية ضدّ العراق، بعد أن أرجأ المجلس الترخيص بذلك طبقا للقرار 1441، الصادر في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، مستعيضا عن التخويل بإعطاء العراق فرصة أخيرة للوفاء بالتزاماته في مجال نزع السلاح المنصوص عليها بعدد من القرارات الدولية، أهمّها القرار 687 الصادر في عام 1991، إثر هزيمة القوات العراقية في الكويت، واضطرارها الانسحاب ووقف إطلاق النار، وقد استُخدم هذا القرار لاحقا مبرّرا للغزو الأمريكي في عام 2003. وفي عام 2005، قال كولن باول نفسه «إن خطابه الشهير في مجلس الأمن سيظل وصمة عار في مسيرته السياسية». ولعلّ الإعلام الأمريكي، الذي سبق له أن روّج لتلك الكذبة الكبرى، ومارس دورا لا يقلّ عن الدور الحربي الذي قامت به القوات الأمريكية في العراق، وهو نفسه الذي يمارس الدور ذاته إزاء غزّة في محاولته لشيطنة المقاومة.
إذا كنا نقول عن واشنطن إنها تتعامل بمعايير مزدوجة وبطريقة انتقائية ممالئةً ﻟ»إسرائيل» فإنها اليوم تتعامل بمعيار واحد، وهو معاداة شعوب المنطقة، وتأييد «إسرائيل» بالمطلق، بل إنها كانت شريكة لها في الحرب على غزّة، ودفعت الغرب بثقله للالتحاق بها في هذه المعركة غير المشرّفة، حيث حجّ إلى «إسرائيل» كلّ من ريشي سوناك رئيس وزراء بريطانيا وإيمانويل ماكرون رئيس فرنسا والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيسة إيطاليا جورجيا ميلوني، إضافة إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن وآخرين. وإذا كنا نتفهّم مواقف البعض من المشروع الأيديولوجي القومي الإيراني، ذي الصبغة الدينية – المذهبية، وندرك الحساسية من التمدّد الإيراني، ومحاولات طهران بسط السيطرة والنفوذ على دول الجوار، إلا أننا لا نستطيع قبول المزاعم بشأن قصفها مستشفى المعمداني، وهي الكذبة ذاتها التي ردّدها البعض بخصوص «الجمرة الخبيثة» مروّجا للأكذوبة الأمريكية، وهؤلاء أنفسهم الذين اعتبروا برنارد ليفي، «جيفارا القرن الحادي والعشرين» محرّرا للشعوب، وهو المؤيد للصهيونية وممارساتها العنصرية ضدّ شعب فلسطين. واستنادا إلى ذلك، لا نستطيع أن نفهم اندفاع هذا البعض لتبرير «حق إسرائيل» في الدفاع عن نفسها، وعن دمغ حركات المقاومة بالإرهاب، وعن إلصاق تهمة قصف مستشفى المعمداني، بزعم قطع الطريق على مبادرة أنتوني بلينكن، في إطار مشروع غربي ـ عربي لإنقاذ الوضع، وأن تدمير غزّة هو «لملاحقة حماس» التي لها مقرّات عسكرية في المناطق المدنية، وأن ما حصل في غزّة من تدمير شامل هو من عواقب هجوم السابع من أكتوبر. كلّ تلك الحجج التي يسوقها هذا البعض تضع علامات استفهام كبيرة، ربما أكبر من الخطأ في الاجتهاد أو التقدير.