الأحفاد يزدادون ضراوة
أستعيد المقولة الاستعمارية الميكافيلية لمؤسس دولة «إسرائيل» ديفيد بن غوريون، لجهلها الحقيقي بجوهر الفلسطيني المرتبط عضوياً بأرضه، التي تقول: «يجب أن نقوم بالمستحيل لكي نضمن عدم عودة الفلسطينيين، فالمسنّون سيموتون، والشباب سينسون» (جورنال 18/07/1948). تبناها وقتها وزير خارجية أمريكا في ظل الحرب الباردة، دالاس، قبل أن تستظل بها بقية الدول الأوروبية وجزء كبير من دول العالم. ويصاب العرب وقتها بأكبر خيبة من غرب كان يريد أن يحل مشكلاته وعقده تجاه المظالم التي أنزلها على اليهود من معاداة السامية والهولوكوست وغيرها من النعوت التي جعلت من «اليهودي» سبباً في كل المعضلات التي حلت بالإنسانية. كل هذا على ظهر العرب الذين مزقتهم المصالح الغربية، وحولتهم إلى دويلات صغيرة من خلال اتفاقيات سايكس-بيكو السرية.
ما يحدث اليوم في غزة المقاومة وفي الضفة الغربية، ليس إلا لحظة من لحظات التاريخ الصهيوني المليء بالدم والوحشية. في غزة، الموت بلا هوادة. وعلى الذين لم يموتوا كما توقع بن غوريون، أن يقتلوا وأن تُمحى ذاكرتهم نهائياً. من خراب إلى خراب، ومن موت بالرصاص إلى الردم أحياء. الفلسطيني اليوم يدفن حياً تحت منازل تحولت فجأة إلى مقابر فوضوية وكتل من الإسمنت المسلح والحجارة والأتربة والزجاج المكسور والخشب المحروق. المهم أن تنتصر المقولة بأي شكل من الأشكال حتى ولو رُدِمَ تحت الأنقاض أكثر من 5000 طفل، كي لا يتحولوا إلى صوت جديد أكثر تطرفاً في مطالبه، و4000 امرأة لكي تتوقف الأرحام عن الإنجاب؛ فالرحم الفلسطيني سخي، لا يلد للموت والانتحار ولكن لانتصار الحق على باطل يتسع كل يوم أكثر. وآلاف المواطنين من كل الأعمار لا سلاح لهم سوى ذنب كسر المقولة العنصرية، يحملون الهوية الفلسطينية التي كذبت كل حكام وعساكر الكيان الصهيوني الذين راهنوا على الزمن لنسيان شيء اسمه فلسطين. قرابة القرن على الاحتلال، وما يزال هذا الصوت يصدح عالياً، بل يقوى أكثر كلما اتسعت مساحة الموت. أجمل شيء، إذا كان هناك شيء جميل وسط هذا الخراب، نزع أقنعة الصهيونية نهائياً التي تخفي وراءها إجراماً وعنصرية مقيتة لم تشهدهما البشرية، وكشف ما تخفيه «الضحية» من تحت المساحيق من حقد وعنف ليس ضد الفلسطيني وحسب، ولكن أيضاً ضد كل من لا يشبهها. فكرة توثيق كل تفاصيل «الوحش» المتخفي الذي خرج من المدرسة الصهيونية محملاً بحقد غير مسبوق ضد العربي مهمة جداً حتى لا يقول أي شخص: لم أكن أعرف. حلموا بـ «عربي ميت» فخرج لهم من الركام والخراب والأنفاق عربي يدافع عن هويته الفلسطينية وحقه في الوجود، وجعلنا نرى بالعين المجردة وحشية غير مسبوقة في السجلات البشرية للجرائم الموصوفة.
من بين الخراب والصور في المستشفيات التي تبين بشكل واضح إلى أي درجة من الإجرام يمكن أن يصل لها الإنسان بمجرد ما يملك بعض القوة، فيصبح الآخرون الذين كان يخافهم مجرد كائنات بلا أهمية ويجب استئصالها، كما قال المغني الصهيوني والعنصري «أنريكو ماسياس»، والدم أقل قيمة من الماء، والحياة خسارة فيها داخل عالم ابتذل الحياة وحولها إلى لا شيء، بالخصوص حياة الفلسطيني؛ لأنه الأكثر إصراراً على أرضه وترابه، مثله مثل الهندي الأحمر، لكنه يرفض أن ينتهي مصيره في اللاتاريخ الذي صنعه القوي الذي حول الدفاع عن الأرض أمام الرجل الأبيض المعتدي إلى وحشية، وأصبحت كلمة «الأباش»، اسم بعض القبائل الأمريكية – الهندية التي استماتت في الدفاع عن أراضيها ضد الإسبانيين والأمريكيين والمكسيكيين، تعني في ثقافة اليومي: «المتوحش». أتذكر في طفولتنا، وتحت تأثير السينما في ترجمتها الفرنسية، ننادي فيما بيننا لكل شخص عنيف في اللعب «أباش»، يعني الشخص المتوحش، الذي يستعمل القوة، وغير المتحضر.
الفلسطيني يرفض أن ينتهي إلى هذا المصير الإجرامي بوضعه في محتشدات لا يرى من خلالها إلا الشمس التي اختاروها له. نعم، كما قال بن غوريون، المسنّون ماتوا، لكنهم ورثوا حب الأرض لأبنائهم، وأحفادهم يستشهدون اليوم على الأرض الفلسطينية. هم أيضاً يحبون الحياة إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لكنهم يحبون أرضهم المسروقة أكثر. الأطفال واليتامى سيزدادون ضراوة، فقد ضخّمت الجرائم الإسرائيلية من أعدادهم. لم يعد هناك ما يخافون عليه. والقادمون الجدد الذين وُلِدوا في رماد الحرائق والعواصف وقنابل الفوسفور سيحملون تاريخ الدم والظلم في قلوبهم، ولن يكونوا حيوانات أليفة. أمامهم عالم لم يروا فيه إلا الذي قتل أجدادهم وسرق أراضيهم، وحرب إبادة ابتذلتْ فيها الأرواح، ودمرت أو كادت إنسانيتهم. لم يكن بوش الابن، عندما صمم على قتل العراق، يفكر في شيء آخر سوى في إسرائيل الدينية التي يجب المحافظة عليها من أجل أمن مزعوم، متناسياً أن الآلة العسكرية التي حلمت بها إسرائيل امتلكتها، فانتهكت السماء العربية كلياً في سباق عسكري ونووي جعلت الدول العربية لا تلمك حتى حق الدفاع عن سمائها ونفسها.
حرب غزة بينت أن إسرائيل ليست قوية بشجاعة عسكرها، ولكن بضعف العرب. جماعة صغيرة صمدت في وجه أكبر ترسانة عسكرية في المنطقة أكثر من شهر وما تزال. من يعتدي على الآخر ويهدد أمنه؟ العرب الذين جردوا من أية قوة دفاعية أم إسرائيل؟ من ينتهك الأراضي والبلاد؟ بأي حق تدخل إسرائيل إلى الأراضي العربية وتقصف أي جهد علمي أو بنية تحتية دفاعية، ثم تعود إلى مواقعها وكأن شيئاً لم يكن؟ بالعنف المتكرر تصنع إسرائيل اليوم قبرها الذي تخافه. هل تخلى الإسرائيليون عن حقهم الديني وعن فكرة الأرض التي ضمنها الرب لشعبه المختار؟ في هذه الحالة، على العرب والمسلمين أيضاً أن يطالبوا بحقهم في الهند وبلاد السند وإسبانيا والبرتغال، وأجزاء من الصين وبلاد إفريقيا، التي بنوا فيها جزءاً من تاريخهم وحضارتهم؟ أية خرافة تنام عليها أكبر «ديمقراطية» وأكبر «عقلانية» في الشرق؟ تصريح نتنياهو الأخير أمام حاخامات إسرائيل من أن وعد الرب بدأ يتحقق على الأرض. والشرق الجديد الذي رسمه على الخرائط لم يعد سراً، ومضروباً حتى على بعض العملات الإسرائيلية: إسرائيل الكبرى التي تشمل فلسطين والأردن ولبنان وسيناء المصرية وجزءاً من السعودية، ألا يدفع هذا بالعرب إلى تأمل الآتي قليلاً ومبادرة المحروقات ما تزال بين أيديهم؟ أكبر فداحة حدثت في السنوات الأخيرة هي تدمير الكيان العربي الموحد وتمزيقه كلياً وإدخاله في ثورات وصراعات وحروب أهلية أجهزت على كل ما تبقى من قوة السبعينيات العربية.
لم تكن الديمقراطية وتغيير الأنظمة إلا سلّماً ركبته الآلة الجهنمية، لتفتيت كل نموذج عربي يمكن أن ينشأ في مكان ما. واجهت الجزائر قدراً قاسياً بمئتي ألف ضحية في حرب أهلية لا معنى لها في بلاد لم يكن فيها الدين رهانًا سياسياً كبيراً، تم تصنيعها في المخابر وما تزال هذه المخابر تشتغل ليل نهار على كل عناصر الاختلاف: الفرقة المجتمعية، الاختلاف الإيديولوجي، الصراعات الإثنية، اللغوية، الدينية والعرقية، واستثمارها بما يسهم في التدمير الكلي. ولا يهم إذا كانت الساكنة بمختلف تشكلاتها هي لحم المدافع.
يمكننا أن نتحدث طويلاً عن بؤس الأنظمة العربية الدكتاتورية، لكن السؤال الذي لم يطرح حتى اليوم دون خوف: هل الحرب الأهلية المدمرة ضرورة لمواجهة دكتاتورية آيلة أصلاً إلى الزوال؟ هل الأبصار عمياء إلى هذا الحد؟ أية ديمقراطية يتمتع بها العرب اليوم بعد انهيار أغلبية بلدانهم؟ صواريخ الغزاوي، وسكاكين المقدسي، وانتحار الفلسطيني في العمليات «الإرهابية»، ليست في النهاية إلّا محصلات ظلم منظم ومهيكل سلفاً، فكيف سيكون الآتي؟