بصمة “الثعلب العجوز”
عبد الحسين شعبان
عن عمر ناهز اﻟ 100 عام، رحل هنري كيسنجر بهدوء في منزله بولاية كونيتيكت الأمريكية، بعد أن شغل العالم لنحو نصف قرن من الزمن بدبلوماسيته المكوكية، وظلّ يلعب دورًا تنظيريًا لا يمكن إهماله حتى آخر يوم في حياته، لما تتضمّن آراؤه ووجهات نظره من كمية المعلومات وحجم التقديرات وباقة الاستنتاجات، التي ظلّ الرؤساء الأمريكان والأجانب والديبلوماسيون بشكل عام يتعاملون معها باهتمام كبير، حيث يُعدّ كيسنجر من أعرق الديبلوماسيين في العالم، وأكثرهم دراية بخفايا وخبايا الديبلوماسية الأمريكية والدولية. وقد تولّى، في سنوات السبعينيات، منصب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في عهد الرئيسين نيكسون وفورد، مثلما امتاز بكفاءة عالية وحيوية فائقة ومبادرة ديناميكية.
ويمكن إدراج أربعة مجالات دولية مهمة لمع فيها كيسنجر على نحو باهر:
أولها – إخراج الولايات المتحدة من ورطة حربها في فيتنام بتوقيع اتفاقية باريس العام 1975، والقاضية بالانسحاب الأمريكي بعد هزيمتها، وتصاعد الاحتجاجات العالمية ضدّها، والتي شملت من الرأي العام الأمريكي.
وثانيها – الانفتاح على الصين وتطبيع العلاقات معها، مستغلًّا الصراع الأيديولوجي الصيني – السوفييتي، فقد عمل على كسر الحاجز النفسي بزيارته السريّة “الشهيرة” إلى الصين العام 1971، ممهّدًا لزيارة الرئيس نيكسون العام 1972.
وثالثها – الانفراج الدولي الذي سعى إليه، وأدّى إلى تخفيف حدّة التوتّر التي شهدتها سنوات الحرب الباردة في العقود الثلاثة الأولى، بتوقيع معاهدة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفيتي (SALT1 – 1972)، وصولًا إلى مؤتمر هلنسكي لعام 1975، الذي شاركت فيه 33 دولة أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا بشأن الأمن والتعاون الأوروبي.
ورابعها – التمكن من فتح مسار التسوية، ولاسيّما بين مصر و”إسرائيل“، بعد حرب أكتوبر التحريريّة العام 1973، وذلك عبر سياسة الخطوة – خطوة، إضافة إلى اتصالاته المباشرة بالقيادات العربية و”الإسرائيلية”، وصولًا إلى توقيع اتفاقية الصلح المنفرد وكامب ديفيد (1978 – 1979).
ومع أن كيسنجر حاز على جائزة نوبل للسلام العام 1973 مناصفةً مع نظيره الفيتنامي الشمالي لو دوك ثو، إلّا أنه اتّهم بارتكاب جرائم حرب، بسبب مواقفه الأولى في توسيع الحرب وإطالة أمدها في جنوب شرقي آسيا (1969 – 1975)، حيث امتدّت إلى كمبوديا، التي عرفت بحيادها آنذاك، وتسهيل عمليات الإبادة فيها وفي تيمور الشرقية وبنغلادش، إضافة إلى دوره في الحروب الأهلية في الجنوب الأفريقي، فضلًا عن دعم الانقلابات العسكرية وفِرق الموت في أمريكا اللّاتينية.
وعلى الرغم من أن الرجل ظلّ بعيدًا عن المواقع الرسمية لنحو 46 عامًا، إلّا أن حضوره كان متواصلًا، وآراؤه مثيرة للجدل. أذكر هنا ما يتعلّق بالعلاقات الأمريكية – الصينية وبالمسألة الأوكرانية، ففي الأولى كان رأيه أن على أمريكا والصين تعلّم العيش معًا، وأن تتوقّف كلّ منهما عن إقناع نفسيهما بأن الأخرى لا تمثّل خطرًا استراتيجيًا عليها، وإلّا فإن العالم سيواجه صدامًا كونيًا. وقد بادر هو شخصيًا، على الرغم من ثقل السنين إلى زيارة بكين في تموز / يوليو 2023، تأكيدًا لوجهة نظره تلك، فقد كان يشعر بالقلق إزاء المنافسة الشديدة بين الدولتين، لكسب رهان النفوذ التكنولوجي والاقتصادي، الذي ستكون عواقبه وخيمة على العالم، ولا بدّ من العمل للحيلولة دون ذلك.
أما بشأن اجتياح روسيا للأراضي الأوكرانية (24 شباط / فبراير 2022)، فقد كان رأي كيسنجر في البداية معارضة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ومراعاة حساسية روسيا، لأنه كان يخشى، بالفعل، أن يؤدي ذلك إلى العملية التي نشهدها، كما قال، لكنه تراجع عن موقفه هذا، معتبرًا أن الأحداث أظهرت أنه لم يعد هناك مبرر لبقاء الأخيرة خارج حلف الناتو، مع أنه سلّم ببعض المكاسب العسكرية لروسيا، لاسيّما في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم التي ضمتها في العام 2014.
يُعتبر كيسنجر من دعاة “الواقعية السياسية” والعلاقات المباشرة والحوار، وقد استقى بعض أفكاره وآرائه من دراسة التاريخ على مدى قرنين، ولاسيّما في القرن التاسع عشر، حيث كتب أطروحته عن نظام ما بعد معاهدة فيينا 1815، ودور مترنيخ، وحاول أن يجمع بين التاريخ والفلسفة، وهو ما أوصى به الديبلوماسيين الشباب.
وإذا كان “الثعلب العجوز” اهتمّ بالإعلام وكان منفتحًا، فإن خليفته بريجينسكي الذي جمع صفتي “الصقر والحمامة“، كان يعمل بصمت، بوصفه شخصية منغلقة لا تحب الظهور الإعلامي، وتلك بعض خصوصيات “تروست الأدمغة“، الذي عمل بمعية الرؤساء، وكان لكلّ منهم بصمته على السياسة الخارجية والديبلوماسية الأمريكية.