ماذا كان هوميروس سيكتب لو عاش يوماً واحداً في غزّة؟
هل نقول اليوم إن الحالة الفلسطينية «حالة انتحارية» قد تقود العالم نحو المزيد من النيران والرماد والدموع نظراً للحسابات الضيقة التي تتبناها غالبية الدول الغربية المناصرة لإسرائيل، التي تصطدم اليوم بفداحة انهيار قيمها الإنسانية التي بنت مشروعها «الإنساني» كلياً من خلالها؟ أمام المقتلة المنظمة وعمليات الإبادة الجماعية، تقف مشلولة حتى عن إصدار أي شيء أممي يوقف هذه البشاعة الإجرامية التي لا تعطي أية قيمة للإنسان، أو حتى للعمران الذي حولته إسرائيل إلى خراب كلي مع الآلاف من المدفونين أحياء تحت الأتربة وكتل الإسمنت والحجارة. مشهدية فلسطينية مقاومة في ظل صمت عالمي كلي، تشبه الملاحم العظيمة كما عرفناها عند اليونان. ماذا كان سيكتب هوميروس لو عاش تحت القصف يوماً واحداً في غزة؟ متأكد من أنه كان سيكتب ملحمة كبيرة غير مسبوقة، سيكون بطلها الفلسطيني المقام الذي لا يُرى، لكنه موجود. لا قوة له إلا جسده الذي تبرع به لأرضه. يقاوم في ظل غطرسة إمبراطورية أمريكية حامية لأن إسرائيل ليست في النهاية إلا اليد المنفذة، ولا قيمة فعلية لها إلا داخل هذه المعادلة. فكل حرب ضد إسرائيل هي استدعاء للترسانة العسكرية الأمريكية القاتلة. مهما كانت القوة الإسرائيلية، فهي ليست أكثر من قاعدة عسكرية متقدمة في الشرق الأوسط، تحمل اسم دولة بنت مشروعها العسكري على تشريد شعب من أرضه، وتعمل اليوم على إبادته. فلا شيء يقف أمام الهدف المبتغى، أي رفض تغيير موازين القوى، حتى استعمال النووي كما قال أحد وزراء نتنياهو.
لم يخطئ من قال إن النووي أداة ردع، لأنه منذ الحرب العالمية الثانية لم تستعمل ولا دولة واحدة القنبلة النووية بعد هيروشيما وناغازاكي قط، (وإن استعملت إسرائيل ما يوازيها أو يتجاوزها في غزة). ماذا لو امتلكت بغداد القنبلة النووية أو دمشق أو القاهرة مثلاً، في وقت التوازنات الدولية والحرب الباردة؟ وهذه الدول تشكل الثالوث المحيط بالقاعدة الأمريكية المتقدمة «إسرائيل»، هل سيكون الوجه العربي بالصورة التي يظهر بها اليوم لرفع الظلم عن نفسه أولاً وعن فلسطين أو عن أية دولة معتدى عليها؟ الفلسطيني ينادي اليوم في حالة يأس: أينكم يا عرب؟ وما يستطيع العرب فعله في ظل سماء عربية فارغة من أية حماية وتفوق نووي وعسكري أمريكي-إسرائيلي؟ ثم إن وضعاً كهذا سيشبع غطرسة إسرائيل وسيمنحها القدرة على إثبات التفوق العسكري الجوي لأنها لن تخوض حرباً أرضية كلاسيكية، ولكنها ستدمر كل البنى التحتية والمنشآت والإبادة البشرية. فلو صنع العرب، مجتمعين أو فرادى، شبكة حماية حقيقية لسمائهم بكل ما يستتبع ذلك من وسائل تواصلية وأقمار صناعية مستغلة كما تفعل الصين مثلاً، وغير تابعة للقوى العظمى. أي حرب ضد إسرائيل بشرطيات اليوم لن تفيد العرب في شيء، بل ستنتفخ إسرائيل أكثر وستضيف هزيمة أخرى للعرب في سجل الهزائم التي نربطها عادة بالتفوق الإسرائيلي، وهي ليست أكثر من حروب استعمارية اشتركت وتشترك فيها القوى الاستعمارية التقليدية، مع إهانة تاريخية لتاريخ الجندي العربي الذي قاوم وحارب ببسالة على الرغم من الخيانات الظاهرة والمبطنة، منْ منحَ فلسطين هدية للصهيونية؟ ألم تكن بريطانيا هي الحامية قبل اتفاقها مع جيوش الهاغانا والشتيرن ثم المغادرة؟ من كان وراء العدوان الثلاثي؟ إسرائيل وحدها؟ من قلب موازين حرب أكتوبر بعد تخطي خط بارليف والتوغل عميقاً على الرغم من آلاف التضحيات؟
يتجلى ضعف إسرائيل في الحروب التي تخوضها ضد الحركات المقاومة الصغيرة وليس ضد الدول. في غزة اضطر الأسطول البحري الأمريكي وكل الترسانة العسكرية إلى التحرك. مع أن الكتائب الفلسطينية الصغيرة لا تملك إلا إرادتها في التحرر ومقاومتها.
كان الغرب الاستعماري حاضراً دوماً، وحامياً ومكسراً لأي انتصار عربي محتمل. للاستعمارات التقليدية الدور الحاسم في جعل إسرائيل تتفرد بالقوة في المنطقة. بريطانيا هي المؤسس العملي للدولة الصهيونية، وفرنسا هي المنشئ الفعلي للترسانة النووية الإسرائيلية، ويضاف إلى ذلك الحامي الكلي، أمريكا، التي أصبحت القوة الطاغية ورأس حربة الإمبراطورية الجديدة. ولا قوة لإسرائيل خارج هذه القوى.
يتجلى ضعف إسرائيل في الحروب التي تخوضها ضد الحركات المقاومة الصغيرة وليس ضد الدول. في غزة اضطر الأسطول البحري الأمريكي وكل الترسانة العسكرية إلى التحرك. مع أن الكتائب الفلسطينية الصغيرة لا تملك إلا إرادتها في التحرر ومقاومتها. وتجد إسرائيل صعوبات كبيرة بل واستحالات في تحقيق انتصاراتها البرقية. الطيران يدمر ولكنه لا يصنع الانتصارات المدوية التي تفخر بها إسرائيل. فقد عرفت إسرائيل في وقت مبكر، من خلال التجارب الأمريكية أن من يملك السماء يملك مفاتيح الانتصار دون خسارات تذكر. جربت أمريكا ذلك في الحرب ضد يوغسلافيا سابقاً بضرب المصالح الحيوية، مولدات الكهرباء لتدخل البلد في ظلمة، ومراكز الماء لتجعل الشعب يركض من أجل قطرة ماء، وضرب المراكز المالية وكل ما يرمز للدولة؛ ليسهل بعدها الانقضاض على البلد ودفعه نحو الاستسلام، بغض النظر عن عدالة تلك الحرب من عدمها. وهو المنطق الذي استعملته أمريكا مع العراق بدعاية جبارة عن امتلاك العراق للقنبلة النووية، لضرب النواة في لحظاتها الأولى واختطاف واغتيال علماء المشروع النووي من طرف المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، لأنهما تعرفان أن امتلاك العراق ليس القنبلة النووية ولكن القوة العلمية لابتكارها، سيغير من المعادلات المستقرة، وهذا ما ترفضه إسرائيل.
من هنا تشكل المعادلة الفلسطينية أسّ كل الاحتمالات، بلغة الرياضيين. لا يمكننا أن نتصور حلاً عربياً إسرائيلياً خارجها، لأن السلام يأتي من هناك حيث قضية الاحتلال والشراسة الإسرائيلية على أشدّها. لكن تظل في الشعوب العربية، على الرغم من سياسات الإحباط والتيئيس، خامة حية وجمرة متقدة حول الحق الفلسطيني. هذه حقيقة موضوعية لا يمكن التغاضي عنها. إسرائيل تدرك ذلك، لهذا تقوم بأي عمل استباقي يوفر لها فرصاً أخرى للتمدد أكثر. فقد اتضح مثلاً أن إسرائيل كانت هي المشرف على عسكرة منطقة سيناء، والإشراف على تدريب التيارات المتطرفة لإضعاف الدولة.
ولا يخفي الكيان الصهيوني أطماعه إزاء الأردن في قضية الضفة الغربية وغور الأردن، التي تعتبر إسرائيل السيطرة عليها أمراً ضرورياً لمنع قيام دولة فلسطينية في المستقبل، بتدمير كل البنى التحتية في غزة وتحويلها إلى ميدان حي لتجاربه وأسلحته الفوسفورية المتطورة، واحتلال المزيد من الأراضي، والانقضاض على القدس وتحويطها بآلاف السكنات في إطار القدس الكبرى التي تغير المعادلة السكانية نهائياً، والمزيد من المستوطنات، والاستيلاء على منابع المياه والنفط أيضاً في المنطقة العربية (نهر الأردن، مزارع شبعا، بحيرة طبريا، الساحل اللبناني…). والأخطر من ذلك كله، إضعاف العرب وتقسيمهم؛ للتمكن من الإجهاز عليهم. تسميم العلاقات العربية-العربية، وقتل كل مبادرات السلام الممكنة بما فيها مبادرة السلام العربية التي تم الإعلان عنها في قمة بيروت 2002، هدفها إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967، وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إسرائيل… للأسف، ماتت كما كل مبادرات السلام الأخرى بسبب الغطرسة الإسرائيلية.
أي حل بقي اليوم أمام الفلسطيني سوى المقاومة مهما كان ثمنها غالياً لرفض القدر الهندي الأحمر وفسح المجال أمام لغة ملحمية ستخرج من بين الأنقاض ورائحة الأدخنة الفسفورية والبارود، حاملة آلام الأطفال والنساء الثكالى والشهداء ورائحة أرض احترقت، لكنها ظلت في مكانها؟