طوفان الأقصى: التكراري المتناقض
يزخر تاريخ البشرية بالحروب التي جرت بين أمم وشعوب وقبائل، أو داخل أي أمة أو شعب، أو قبيل. لذلك نكاد نربط التاريخ بتشكل الدول وتدهورها، وما تعرفه من تحولات بسبب الحروب الأهلية أو الخارجية. وعندما نحاول دراسة تاريخية الحرب لدى مختلف الشعوب، نجدها رغم بعض الخصوصيات التي يمكن أن تنطبع بها في إحدى حقب التطور، تخضع لقيم وقواعد مشتركة يبرز فيها التمايز بين الشجاعة والضعف، والحيلة والتهور، أو الذكاء وسوء التدبير.
ورغم كون الحرب خدعة فإنها مع ذلك، أو بسببه تظل معبرة عن التفاوت بين المتحاربين ومدى ما يتمتع به أحدهما عن الآخر. فالخدعة تعني المهارة في تيسير الأمور التي تؤدي إلى الغلبة وفق قيم النبالة والمروءة والشهامة، التي كانت بمثابة دليل على خصوصية المحارب وثقافته الحربية. وفي دروس الفتح الإسلامي نجد الكثير من الدلالات المبرزة لموقف الإسلام من الحرب، وكيفية إدارتها من لدن المسلمين.
تقدم لنا السير الشعبية العربية، وكذلك روايات الفروسية الغربية في العصور الوسطى القيم النبيلة التي يتميز بها الفرسان، التي يعتدون بها في مفاخراتهم وانتصاراتهم التي تعبر عنها بصورة واضحة. ولا داعي للحديث عن الحروب التي يخوضها اللصوص والمتوحشون والبرابرة الذين لا أخلاق لهم، ولا ذمم. ويحفل التاريخ البشري بالحروب الوحشية التي تسعى إلى الإبادة العرقية، والأرض المحروقة والتدمير الجماعي لدى المتعطشين للدماء، الذين يستغلون ضعف من يحاربونهم فيستأسدون، ويبتهجون لقتل الأطفال، وبقر بطون النساء، وحرق المزارع، وقتل الحيوانات الأليفة. وما قام به الغرب إبان الحروب الاستعمارية والاستيطانية في العصر الحديث خير دليل على ذلك، فالعسكري وراء مدفعه، أو بندقيته يمارس التقتيل ضد من يحمل عصا، أو حجارة أو قوسا. وما مارسته إسرائيل منذ قيامها تمثيل جيد لذلك، فهي سليلة الحروب الاستعمارية المبنية على ركيزة محو الآخر، وإبادته للحلول محله. ولا علاقة لها بالحروب التي كانت المبارزة فيها بين الفرسان دليلا على قيم مشتركة، لا أريد أن أتحدث عن الخوف الذي يهيمن على من لا قيم لهم من الجنود الصهاينة، وهم مدججون بأحدث الأسلحة الرقمية ويشنون الغارات ليل نهار، وجوا وبرا وبحرا، ويتباهون بانتصارات وهمية، وبعدد من قتلوه من المدنيين، وما دمروه من فضاءات، لكنني أريد تناول هذه الحرب من زاوية الزمن السردي الذي وقعت فيه إبان الاتفاق على الهدنة التي يسمونها «إنسانية».
الحرب فعل يقع في زمن، ولقد عملت السرديات على النظر في الحدث، أي حدث، ومنه الحرب، عبر تقديمه من خلال الخطاب الذي يقدمه إلينا مميزة تحت مصطلح التواتر بين حدث يقع مرة واحدة، ويحكى مرة واحدة، وهو ما أسمته الانفرادي. كما أنه يمكن أن يقع حدث واحد في القصة، لكنه يروى من خلال خطابات متعددة من شخصية واحدة، أو عدة شخصيات، ويسمى هذا النوع بالتكراري. أما النوع الثالث من التواتر فهو التكراري المتشابه الذي يتحقق من خلال خطاب واحد يحكي لنا أحداثا عديدة متشابهة. يهمنا هنا النوع الثاني: التكراري، فطوفان الأقصى حدث واحد، لكنه يقدم إلينا من خلال خطابات متعددة، وشخصيات متعددة. لا نريد تناول هذا النوع بالوقوف على وجهة النظر، أو المنظور الذي يحكى لنا من خلاله هذا الحدث. لكننا نبغي الإشارة إلى أنه بعد الاتفاق على الهدنة، دخل الاحتلال الصهيوني والمقاومة في مرحلة جديدة قوامها: إيقاف الحرب. وفعلا تمت الهدنة باعتبارها حدثا تكراريا جديدا بين الطرفين حيز التنفيذ، وباتت القصة مفتوحة على مسارات جديدة مفترضة. استمرت الهدنة أسبوعا كاملا. لكن هذه القصة الحقيقية والطبيعية نجدها تخالف كلما تقدمه لنا السرود التي أنتجتها البشرية، سواء في الحرب أو السلم، وسواء كانت القصة الحربية حقيقية أو خيالية، من خلال مختلف التنظيرات السردية، بإقدام الاحتلال الصهيوني ليس بخرق الهدنة، لكن بمناقضتها عبر جعله حدث الحرب يظل حدثا، لكنه يتخذ مسارا ذا بعد مكاني مختلف. لقد مارس الاحتلال «الهدنة» في القطاع، وشرّع «الحرب» في الضفة الغربية. لقد تم تجميد حدث الحرب بالهدنة في غزة، ومارسها في الضفة. إن الفاعل الصهيوني هنا يمارس حدثين متناقضين في زمن واحد، ومكانين مختلفين: هدنة هنا لحرب يراها هذا الفاعل الصهيوني دفاعا عن النفس لأن حماس هي التي بدأت الحرب؟ وحرب هناك على من كان لا يرى أنهم حماس، وأنهم لم يبدؤوا بالحرب، وأن دخوله إلى هذه الحرب ليس إلا بهدف القضاء على حماس. إننا هنا أمام نوع جديد من التواتر سميناه: التواتر المتناقض. وفي ممارسة هذا الحدث التكراري في الضفة، نجد ما مورس قبل الهدنة نفسه: اعتقالات، تسليح «المواطنين» سرقة متاع المهجرين، قصف، وتدمير.
لا يخطئ من يمارس هذا التواتر المتناقض من إيجاد مبررات وحشيته، وعدم التزامه بقيم الحروب. لقد كشف ما قام به الاحتلال ومعه أمريكا في الضفة إبان الهدنة أن هدفه واحد: محو القضية الفلسطينية، وممارسة الإبادة الجماعية. فإلى متى سيظل متابعو هذه القصة يصدقون الراوي المفتري؟