هل يتناسب الأداء الدبلوماسي الباهت لروسيا والصين مع هول حرب الإبادة الصهيونية؟
علاء اللامي*
يستمد هذا السؤال مشروعيته وراهنيته من ثلاثة أمور؛ الأول هو حجم الكارثة وغزارة الدماء الفلسطينية المسفوكة من قبل ماكينة الحرب الصهيونية بالسلاح الأميركي، وثانيا من عراقة وقوة العلاقات التاريخية بين الدولتين والشعبين في روسيا الاتحادية والصين الشعبية والشعوب العربية وبخاصة مع الشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية طوال سنوات الصراع الدموي والحروب العدوانية التي شنتها هذه الدولة الأيديولوجية الخرافية الصهيونية على السكان الأصليين الفلسطينيين، وثالثاً من كون هاتين الدولتين هما عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي. وعليه، إن من حق الشعب الفلسطيني الأعزل أن يشعر بالخذلان ممن كان يعولهم عليهم ويعتبرهم أصدقاء ومساندين له لأنهم لم يقوموا بما يجب القيام به خلال محنته.
نسجل منذ البداية أن موقف روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية من العدوان الإبادي الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة هو موقف إيجابي ومنحاز للشعب الفلسطيني وقضيته ماضيا وحاضرا. ولكن، هل يمكن اعتبار التطبيقات العملية الدبلوماسية والسياسية لهذا الموقف هذه الأيام متناسبا مع حجم العدوان الصهيوني الأميركي الذي اتخذ طابعاً إبادياً عنصرياً صريحاً لا حدود لانتهاكاته وجرائمه وساديته؟ لقد قارب عدد القتلى المدنيين حرقاً بالقنابل والصواريخ الأميركية ستة عشر ألف قتيل، نصفهم تقريباً من الأطفال، وبمعدل طفل يقتل كل سبع دقائق، ودمرت أحياء بكاملها وبمن فيها من مدنيين، غير أنَّ مواقف الدولتين لم تتطور وتتصاعد بما يتناسب مع حجم المأساة الهائلة وغير المسبوقة لشعب يذبح جهاراً نهاراً وعبر البث التلفزيوني المباشر، وهذا هو الموضوع الذي سنتوقف عنده ناقدين ومعاتبين ومحذرين:
إن وقوف الأداء الدبلوماسي الروسي والصيني عند حدود متواضعة ولفظية مترددة تجاوزتها الأحداث المأساوية، وعدم تصاعده بما يتناسب مع تمادي العدوان الصهيوني وتحوله إلى عملية إبادة وتصفية عرقية لا يمكن تفسيره أو تبريره بعد الآن، وهو جدير بأن يلحق أفدح الضرر بالعلاقات بين الدولتين والعرب عموما والشعب الفلسطيني وقواه المقاومة خصوصا.
إننا ندرك أن روسيا الاتحادية اليوم ليست هي الاتحاد السوفيتي بالأمس، وخصوصاً في أيام الزعيم السوفيتي خروتشوف ورئيس وزرائه الباسل نيكولاي بولوغين صاحب الإنذار المعروف باسمه والذي وجهه للمعتدين البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين خلال العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول سنة 1956، ونصه: “إذا لم يتوقف العدوان الغربي الإسرائيلي على مصر خلال أربع وعشرين ساعة فنحن مستعدون لإرسال قوات عسكرية إلى مصر لمواجهة المعتدين وسنمطر لندن بالصواريخ”؛ كما وندرك أن روسيا الاتحادية مستهدفة ومنشغلة في حربها الضروس المستمرة في أوكرانيا والتي تواجه فيها الغرب كله وتوابعه خارج القارة العجوز ولكن انشغالها هذا لا ينبغي أن يمنعها من القيام بواجب الصداقة نحو الشعب الفلسطيني النازف دما.
مثلما ندرك أن الصين الشعبية اليوم ليست هي صين ماو تسي تونغ والقيادات الثورية الأممية، وأن الصين نفسها مستهدفة من قبل الغرب على جميع الصعد الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية وحتى في وحدة أراضيها الوطنية، ولكن هل يبرر لها ذلك هذا الأداء الباهت والمتردد والخجول منذ بداية العدوان؟ لقد التزمت الدبلوماسية الصينية الصمت لعدة أيام بعد بدء العدوان الصهيوني، لتخرج بعد ذلك بكلام باهت ومكرر ثم تراوحت مواقفها بين الصمت والكلام العام والإنشائي. لنقرأ ما قالته المتحدثة باسمها ماو نينغ ووانغ ون في الأيام الأولى للعدوان: “نحن نعارض التحرّكات التي تؤدّي إلى تصعيد الصراع وزعزعة استقرار المنطقة، ونأمل أن يتوقف القتال وأن يعود السلام قريباً. ويتعيّن على المجتمع الدولي أن يلعب دورا فعّالا للمساعدة بشكل مشترك في تهدئة الوضع”. صحيح أنَّ الصين رفضت على لسان المتحدثة باسم الخارجية الصينية، إدانة الهجوم الذي نفذته المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول، “مؤكدة مساندتها دائماً للإنصاف والعدالة”، ولكن هذا الرفض لا ينفي حدوث تراجع مهم قياسا إلى مواقف الصين المعهودة في الماضي.
وحتى حين، أعلنت وزارة الخارجية الصينية يوم السبت 14 تشرين الأول أن مبعوثها الخاص إلى الشرق الأوسط “تشاي جون” واجتمع هذا المبعوث يوم الجمعة 13 أكتوبر مع ممثلين عن جامعة الدول العربية في بكين بشأن ما سمته “الأزمة في قطاع غزة”، فهي لم تطور مبادرتها وترسل مبعوثها الى دول منطقة الصراع. ويبدو أن الرد الإسرائيلي المتشنج على التصريحات الصينية الهادئة منع الصين من تطوير مواقفها وحراكها الدبلوماسي. فردا على الموقف الصيني واجتماع المبعوث الخاص بممثلين عن الجامعة العربية، بادرت الخارجية الإسرائيلية، إلى الاتصال هاتفيا بالمبعوث الصيني إلى الشرق الأوسط وأبلغته “خيبة أملها الكبيرة”، إزاء عدم إدانة الصين وبشكل واضح لما وصفته بـ “المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها حماس”. ومن الواضح أن رد الفعل الصهيوني هذا كان له تأثيره على الموقف الصيني، ويبدو أن الصين حجَّمت مهمة مبعوثها الخاص.
لقد تخلت الصين عن موقفها النقدي السابق من إسرائيل وحتى من حلفائها الغربيين، وسجل المراقبون تراجعا صينيا مؤسفا حتى عن مواقفها النقدية السابقة خلال معركة “سيف القدس” في أيار 2021، ولم يبدر منها أي موقف أو إجراء تضامني فعال سوى اشتراكها في التصويت إلى جانب مشاريع القرارات الروسية في مجلس الأمن. والأكيد هو أن هذا التراجع لن يكون مستقبلا لمصلحة تطور العلاقات العربية الصينية، وإنه لا تنسجم مع مبادئ الصين الشعبية في التضامن الأممي وتحقيق العدالة والإنصاف ولن يخدم الصين ذاتها مستقبلا وهي المقبلة على صراعات وأزمات حادة متوقعة مع العدو ذاته الذي يحمي ويسلح قاتل الأطفال الفلسطينيين!
إن من المؤسف والمثير لخيبة الأمل أن يتراجع أداء الصين الشعبية الدبلوماسي وفعلها التضامني مع ضحايا الهجمة الإبادية الراهنة الفلسطينيين فهذا التراجع لم يحدث قط خلال العقود الماضية وهو يثير الكثير من القلق والأسئلة الصعبة خصوصا في الأوساط الشعبية والقوى التقدمية العربية.
أما بخصوص روسيا الاتحادية، فقد كان موقفها في مجلس الأمن واضحا ومبدئيا وقويا وشبيهاً بمواقف الصين الشعبية. وقد قدمت بعثتها في المنتظم الأممي أكثر من مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار أسقطت كلها بالفيتو الأميركي والبريطاني، ولا يمكن نسيان التصريح الشجاع للمندوب الروسي في المجلس فاسيلي نيبينزيا في الأول من تشرين الثاني، والذي قال فيه “إن إسرائيل ليس لها الحق في الدفاع عن النفس في الصراع الحالي لأنها دولة احتلال”، فقد كان هذا التصريح شجاعا ومهما كسر حدة الهجمات الغربية والإسرائيلية في مجلس الأمن، ولم يجرؤ أحد في المعسكر الغربي الصهيوني على الرد عليه، مثلما ردوا فورا على تصريح الأمين العام الذي قال فيه “إن هجوم السابع من تشرين الأول لم يأت من فراغ وإن أي طرف في الصراع المسلح ليس فوق هذا القانون”، حيث دعا سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان وبكل عجرفة، غوتيريش إلى الاستقالة وشنوا ضده حملة إذلال إعلامية شرسة. ولكن السؤال هو هل كان الأداء الروسي والصيني الدبلوماسي متناسبا مع حجم المذبحة المرتكبة بحق الفلسطينيين، وهل تطور ليصل إلى درجة التأثير على تمادي إسرائيل في عمليات القتل الوحشية وردعها لما لدى موسكو من كلمة ذات وزن مؤثر على تل أبيب؟
إن واقعة عدم الرد الغربي والصهيوني على نبينيزيا الذي جرد إسرائيل – وهو على صواب من وجهة نظر القانون الدولي- من حق الدفاع عن نفسها في مواجه شعب تحتل وطنه يمكن تفسيرها بسببين؛ الأول هو أن ما قاله صحيح ومتسق مع القانون الدولي الذي لا يمنح لأية قوة احتلال حق الدفاع عن النفس كما قلنا. وثانيا، فهو يؤكد أن إسرائيل تحسب حساباً ثقيلاً لروسيا ولدورها وتخشى أن تتحول إلى عدو صريح لها. معلوم أن العلاقات بين روسيا بوتين وإسرائيل نتنياهو علاقات جيدة وقد تم التغاضي عن العدوان الصهيوني المتكرر على سوريا طوال السنوات الماضية، ولكن الدبلوماسية الروسية تخطئ كثيرا إذا راهنت على الحصول على دور الوسيط مستقبلا بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وقيادات الشعب الفلسطيني والعرب عموما عبر إبداء هذا النوع من الحياد والمهادنة لمجرمي الحرب الصهاينة، فهذا الدور محتكر من قبل الولايات المتحدة، ولن تسمح لا هي ولا إسرائيل لأي طرف آخر أن يقوم به أو يشارك في القيام به مجرد مشاركة. إنَّ الدبلوماسية الروسية حين تطمح بدور الوسيط فتركن إلى المهادنة والسكوت على جرائم دولة الاحتلال إنما تراهن على الأوهام وتضحي بدورها المبدئي والتضامني الإنساني المفترض مع أقرب الشعوب إليها، فهي لن تحصل على هذا الدور إلا في حالة حصول كسر مهم في الهيمنة القطبية الغربية الإنكلوسكسونية على العالم وهذا ما لم يحصل حتى الآن وإنْ كنا نشهد بداياته المتواضعة.
وقد يسأل سائل ماذا بإمكان روسيا الاتحادية والصين أن تفعلا أكثر مما فعلت؟ إن ما فعلته الصين يبقى أقل كثيرا مما قامت به روسيا الاتحادية، وكان بإمكان الدولتين أن تفعلا الكثير ففي حين تسرح الدبلوماسية الأميركية والأوروبية الغربية وتمرح في الشرق الأوسط ويكرر بلينكن وزملاؤه زياراتهم وتنهال المساعدات التسليحية والمالية الضخمة على إسرائيل المعتدية لم نسجل نشاطا مستداما مماثلا لروسيا الاتحادية والصين الشعبية. كما لم نسجل إجراءات احتجاجية روسية صينية ضد المجازر التي ارتكبتها دولة إسرائيل حتى من قبيل الإجراءات الرمزية، بل أن الاندفاع الأميركي الهستيري إلى مساندة العدوان الإسرائيلي بإرسال حاملتي طائرات وبوارج حربية إلى شرقي المتوسط وقوات خاصة وخبراء استراتيجيين عسكريين ومدنيين لم يواجه بمواقف وإجراءات روسية مقابلة حتى من باب إرساء حالة من التوازن في المنطقة ومن باب الدفاع عن قاعدتها في “حميميم” وقواتها المسلحة الموجودة في سوريا!
لقد تطورت المواقف التضامنية لبعض الدول الصديقة للعرب والشعب الفلسطيني كثيرا وتجاوزت مواقف روسيا الاتحادية والصين الشعبية كثيرا فجمهورية بوليفيا مثلا بادرت إلى قطع علاقاتها مع “إسرائيل”، أما كولومبيا وتشيلي فقد استدعتا سفيريهما احتجاجا على الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين. ولم تكتف جمهورية جنوب أفريقيا باستدعاء جميع الدبلوماسيين من تل أبيب بل وزادت فقدمت شكوى للمحكمة الجنائية الدولية من أجل التحقيق في “جرائم حرب” ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة كما أعلن رئيسها رامافوزا مؤكدا أنه سيتابع هذا الموضوع شخصيا.
وختاما، ومن منطلق الحرص على مستقبل العلاقات العربية الروسية والصينية، نصارح الأصدقاء الصينيين والروس، بأن هذا الأداء الدبلوماسي الباهت والمتردد لا يتناسب إطلاقاً مع هول المذبحة المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والتي بلغت درجة التطهير العرقي الصريح باستعمال الأسلحة الحديثة الفتاكة ولا مع العلاقات التأريخية التي تربط بين الشعوب العربية والدولتين والشعبين الصديقين في روسيا الاتحادية والصين الشعبية، فذاكرة الشعوب أقوى من ذاكرة الأفراد مهما كانوا عباقرة خصوصا إذا تعلق الأمر بسفك دماء الأبرياء كما يحدث هذه الأيام!
*كاتب عراقي