صلاح عمر العلي تراويح المراجعة وامتحانات اليقين / الحلقة الثالث
اللقاء في لندن
في لندن التقيت صلاح عمر العلي، وذلك بعد وصولي إليها ( تشرين، الأول / أكتوبر 1990)، وكان العالم قد اهتزّ لخبر مغامرة غزو الكويت في 2 آب / أغسطس 1990، ومهّد الصديقان إياد علّاوي واسماعيل القادري للقاء حين زاراني في منزلي، ثم حدّدنا موعدًا لتبادل وجهات النظر بشأن أوضاع ما بعد عملية الغزو وما سيترتّب عليها. واجتمعنا حينئذٍ، كلّ من صلاح عمر العلي ونوري عبد الرزاق وإياد علّاوي واسماعيل القادري وكاتب السطور، وناقشنا موضوع احتمالات تطوّر الموقف.
وتباينت الآراء بيننا، وكان رأي نوري في البداية استبعاد وقوع الحرب، وانصبّت تقديراته على احتمالات الانسحاب العراقي، وحصول مساومة تُرضي الغرب، أما رأي صلاح وإياد والقادري وشعبان، فقد كان يميل إلى أن الحرب قائمة، حتى لو انسحب النظام العراقي من الكويت، فقد قُضي الأمر بإرسال القوّة العسكرية الأمريكية إلى الخليج والجزيرة، وتوقّعنا أبعد من ذلك، احتمال احتلال العراق والإطاحة بالنظام، خصوصًا وكان صدام حسين قد تباهى بامتلاك “الكيمياوي المزدوج” في لحظة غرور غير مسؤولة، مهددًا بتدمير نصف “إسرائيل”، وذلك في الوقت الذي كانت المعادلة الدولية قد اختلّت تمامًا لصالح الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب عمومًا، بعد تغيير أنظمة أوروبا الشرقية، إثر سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989، وتصدّع موقع الاتحاد السوفيتي، الذي أخذ بالتحلّل تدريجيًا، حتى انتهائه في أواخر العام 1991.
واجتمعنا أكثر من مرّة لاحقًا مع الفريد هوليداي، الخبير اليساري البريطاني، والخبير بأوضاع الشرق الأوسط واليمن بشكل خاص، والتي زارها في السبعينيات أكثر من مرّة وكتب عنها، وذلك لتوسيع دائرة النقاش والاحتمالات والتوقعات. وكان رأيه أقرب إلى رأي نوري، حيث لم يرجّح وقوع الحرب، بل إنها لم تكن ضمن الاحتمالات الأولى، فقد تفضي الأمور إلى انسحاب محدود، والاحتفاظ بجزيرة بوبيان أو انسحاب تدرّجي بعد تطمين الولايات المتحدة أو ضربة عسكرية مخففة للتمهيد للانسحاب بعد وساطات وتسويات دولية، علمًا بأن نوري، بعد التطورات المتسارعة، اعتبر الحرب قائمة لا محال لتدمير القوّة العسكرية العراقية لصالح “إسرائيل” بعد الخبرات لتي اكتسبتها من الحرب العراقية – الإيرانية.
وعشية الحرب (17 كانون الثاني / يناير 1991)، نظّمنا اجتماعًا موسّعًا حضره عددًا من الشخصيات العراقية للاتفاق على توجّه مشترك، وقبل ذلك فكّرنا باسم من ستوجّه الدعوة؟ وقلنا طالما ستكون الدعوة في منزل الأستاذ صلاح فلتكن باسمه الشخصي، وتمهيدًا لذلك عقدنا لقاءً مصغّرًا تحضيرًا للاجتماع الموسّع، الذي اعتُبر حدثًا لندنيًا – عراقيًا حينها، حيث نوقش فيه موضوع الموقف من الحرب على العراق، وتوقعات ما بعد الحرب، وذلك على مدى ثلاث ساعات.
المعادلة الصعبة: لا لغزو الكويت ولا لاجتياح العراق
بعد مناقشات مستفيضة وآراء مختلفة ومتنوّعة وعلى مدى أكثر من ثلاث ساعات، كُلّفت بإعداد صيغة بيان لعرضه على الحاضرين لتوقيعه، إضافةً إلى عدد من الشخصيات، التي لم يتسنَّ لها الحضور. وقد حرصت على أن يكون البيان متوازنًا، فليس باسمنا تُشنّ هذه الحرب، وليس باسمنا جرى اجتياح الكويت، وما ندعو إليه هو الانسحاب الفوري للقوات العراقية من الكويت، وتسوية المشاكل العالقة بين البلدين، في إطار سياسة حسن الجوار والعلاقات الأخوية التاريخية والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وقواعد القانون الدولي، التي تقضي احترام السيادة وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية وحلّ المشاكل بالطرق السلمية، وذلك لقطع الطريق على القوى الإمبريالية والصهيونية المستفيدة من كلّ ذلك، والتي جلبت جيوشها إلى المنطقة، ودعونا لانسحابها، وعودتها من حيث أتت، دون نسيان أهمية وجود نظام ديمقراطي في العراق، فالديكتاتورية كانت وراء المغامرات العسكرية، واستمرارها يلحق أفدح الأضرار بالعراق ومستقبله.
وقد أثار البيان حفيظة العديد من القوى، أولها – النظام العراقي، الذي حمّلناه مسؤولية الغزو؛ وثانيها – القوى الإمبريالية والصهيونية، التي هي المستفيدة من هذه الحرب، خصوصًا تكثيف وجودها العسكري، وهو ما أوصلناه إلى جهات عربية مختلفة، بعضها اتّفق معنا وأبدى مخاوفه هو الآخر، وبعضها لم يخفِ تحفّظه على البيان؛ وثالثها – بعض القوى السياسية التي أرادتها فرصة للإطاحة بالنظام العراقي، حتى ولو أدّت إلى احتلال العراق، سواء أعلنت ذلك أو لم تعلن (بعض القوى الإسلامية والكردية وبعض اليساريين)، فقد اعتبرت هذه القوى مغامرة النظام العراقي بغزو الكويت فرصة ذهبية لها، ولو على حساب الشعب العراقي الذي يُعاني الأمرين؛ ومثل هذا الموقف العدمي لبعض القوى استمرّ طيلة فترة التسعينيات، فلم تتورّع تصريحًا أو تلميحًا بالدعوة إلى استمرار الحصار، تحت عنوان أنه سيؤدي إلى تآكل النظام وإسقاطه.
ولم تخفِ بعض هذه الجهات صراحةً معارضتها لوجهة البيان، بل وصفته ب “البيان السيء الصيت”، والغرض منه ممالأة لصدام حسين، ومحاولة لإطالة أمد حكمه بزعم “الدفاع عن الاستقلال الوطني”، وحمايته من الاضرار اللاحقة، وهو ما تمّ تحريض أحد الشخصيات الكردية البارزة للقول بما يقارب ذلك، خلال سفره إلى السعودية، لكنه حين عرف حقيقة البيان والشخصيات الموقعة عليه، اعتذر شخصيًا من عدد من الأسماء الموقّعة على البيان، وقال أنه وقع تحت تأثير تضليل البعض.
ومن الشخصيات التي وقعت على البيان: صلاح عمر العلي، نوري عبد الرزاق، محمود عثمان، إياد علّاوي، بلند الحيدري، موفق فتوحي، محمد الظاهر، فاروق رضاعة، مهدي الحافظ، عادل مراد، اسماعيل القادري، تحسين معلّة، صلاح الشيخلي، سمير شاكر محمود، عائدة عسيران، عدنان المفتي، عبد الحسين شعبان وآخرين. وطلب هاني الفكيكي وضع اسمه على البيان الذي صدر حينها والذي مفاده ليس باسمنا: لا للغزو، ونعم لتحرير الكويت ولا للحرب على العراق ونعم لإقامة نظام ديمقراطي.
جبهات وطنية وتحالفات بالجملة
كانت قد تشكّلت في 27 كانون الأول / ديسمبر 1990 لجنة العمل المشترك، وحاولت احتكار العمل للقوى الكبرى، كما تمّ تسميتها، وضمّت الحزبين الكرديين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) والحزبين الإسلاميين (الدعوة والمجلس الإسلامي) والحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث (الجناح السوري).
وقد بدأت مرحلة جديدة من مراحل الصراع، على جبهة المعارضة، بعد إسدال الستار على جبهة جوقد (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)، التي تأسست في دمشق في 12 تشرين الثاني / نوفمبر 1980، وضمت حزب البعث (جناح سوريا) والحركة الاشتراكية العربية (جواد دوش وعوني القلمجي) والاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الاشتراكي (مبدر الويس) والحزب الشيوعي العراقي والحزب الاشتراكي الكردستاني (محمود عثمان ورسول مامند)، وجيش التحرير الشعبي (هاني حسن النهر)، والمستقلّين الذين مثلهم حسن النهر.
وجبهة جود التي تأسست بعد أسبوعين من الجبهة الأولى في كردستان، وهي مختصر ل “الجبهة الوطنية الديمقراطية”، وضمت الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي الكردستاني وحزب الباسوك، وهو حزب قومي كردي صغير، والحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، الذي رفض حزب الاتحاد الوطني (أوك) انضمامه إلى جوقد، وهو الموقف الذي سانده أيضًا حزب البعث (الجناح السوري) بتحريض من أوك.
وقد حصلت احتكاكات بين الجبهتين، كان واحدًا من نتائجها السلبية مجزرة بشتاشان، التي راح ضحيّتها نحو 70 شيوعيًا على يد مقاتلي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في العام 1983، وكنّا زكي خيري وكاتب السطور قد قابلنا نائب الرئيس السوري عبد الله الأحمر، باسم الحزب الشيوعي في أواخر العام 1981، ودعونا سوريا وحزب البعث للتدخّل لدى الأطراف المختلفة لتخفيف حدّة التوتّر بين بعض أطراف المعارضة، لما تملكه من دور وثقل عندها جميعًا لتسوية الخلافات، واقترحنا صيغة حلّ مفادها، إمّا الاتفاق على برنامج عمل موحّد، يقوم على دمج الجبهتين، أو التنسيق بينهما إن تعذّر توحيدهما، أو انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني في جوقد، وعندها تنتهي المشكلة.
وللأسف فإن قصر نظر جميع الأطراف كان وراء ذلك التشتّت والاحتراب، وهو الذي استمرّ مع المعارضة في مراحلها المختلفة، حيث تحاول بعض الأطراف الهيمنة على توجهاتها أو بسط جناحها على هذه المجموعة أو تلك أو محاولة احتكار تمثيل المعارضة أو أجزاء مهمة منها.
يتبع في الحلقة الرابعة بعنوان “مؤتمر بيروت وتأسيس الوفاق”