رائد الشّافعي… الصّوت الحي داخل دهاليز السّجون
في هذا الوضع القاسي الذي تعيشه غزة والضفة الغربية وبشاعة جرائم الإبادة الإسرائيلية، تنشأ المقاومة وتتسع كوسيلة مناهضة ليقينيات الاحتلال وأوهامه. فلسطين هنا وعلى كل الأرض الفلسطينية. فيصبح الأدب قوة نضالية قوية بالخصوص في سجون الاحتلال، يخترق الحدود ويذهب بعيداً نحو الأسئلة الجديرة بالنقاش.
في روايته «معبد الغريب» يرتفع الروائي الفلسطيني رائد الشافعي، بالحياة نحو الأقاصي إلى درجة أن تمس حدود القداسة، مثلها مثل الحرية التي لا تقبل القسمة مطلقاً.
منذ أن غادر غريب سجن النقب باتجاه سجن الإخوة وهو يكتشف عالماً آخر أكثر قسوة ومرارة، حتى إن أصدقاءه تغيروا كلياً. الحياة نفسها اتخذت لها مسلكاً آخر انقلبت فيه القيم. العدو أصبح صديقاً والصديق عدواً. كان صديقه يوسف قاسياً في حوارهما: «أصبحت الآن أفضل. كنت منتفخاً بالأحلام الجماعية، والآن تقيأتها كلها دفعة واحدة. لا أخفيك، أحوالي صارت أفضل منذ بدأت التحدث بصيغة الأنا عوضاً عن نحن. فمنذ سلام الشجعان يا غريب، لم أذكر أن تلفظت باسم فلسطين»، يحمل كل ما حدث للقيادة التي كانت وراء الخيارات السياسية التي مزقت الشعب الفلسطيني وحولته إلى «هندي أحمر» متشرد في الفلوات، بلا أرض ولا تاريخ، بل بلا قيادة تقوده نحو النور والانتصار. قد يبدو الخطاب قاسياً ونقداً مراً للمؤسسة السياسية، لكن الروائي هيأ له روائياً من داخل النص. لكن تلك الخيبات لا تهز جوهر الخيارات الحياتية للأفراد المشبعين بقضيتهم، وإلا ماذا يساوي الإنسان أمام حالة كهذه؟
يبحث غريب عن إجابات عميقة لقلقه الوجودي. فهو منذ أن خرج من السجن وهو يتساءل عما ينتابه من خيبات وقلق لا يستطيع أن يسيطر عليهما. في حالة صدمة تدفعه للعزلة والاكتئاب، ينتابه شعور غريب بأنه ميت ويشعر بأن جسده تحرر كلياً، ولم يعد رهين الحيطان التي كانت تمنعه من الحياة والحركة الحرة، لكن حيطاناً أخرى نبتت لتسجن روحه كلياً. ذهابه إلى المزرعة التي يحرسها المعلم أبو نضال، واتخاذه ركناً له بها بجانب النار الموقدة من الحطب وقرب حظيرة الأغنام، لم يخرجه من ألمه العميق، هو الذي كان عليه أن يفرح بعد أن غادر ظلمة السجن. يهرب كلما سكن إلى نفسه من مواجهة نفسه، فمرايا الواقع الجديد تدمره داخلياً.
أبو نضال أدرك بسرعة أن زائره الليلي يبحث عن لحظة أمان وعن ملاذٍ يقيه من التيه الذي سكنه، بحيث أصبح يشك في جدوى كل ما يحيط به. يستجدي آذاناً تصغي لحديثه الداخلي الذي يتسبب شيئاً فشيئاً في كسره داخلياً. يتضح ذلك من خلال إجابته على سؤال أبو نضال: «لا أعرف، منذ خروجي من السجن وأنا في حالة صدمة»، وربما كان صديقه يوسف الذي شاركه قيمه وثورته في انتفاضة الحجارة، الذي كان يقضي جلّ وقته في الضفة بحجة المبيت في بيت شقيقته، والذي يحتبس في صدره غضب المخذول، فهو الوحيد الذي قرأ جيداً صمت غريب الطويل وصفنه في النار التي كانت تشتعل أمامه دون أن ينبس بكلمة واحدة.
غريب يعرف جيداً أنه أقل جرأة من صديقه يوسف الذي واجه حياته كما رآها بعد انكسار الأحلام، بعد أن كفر بكل اليقينيات السابقة وشرع في تحقيق ذات مشوهة بعد أن وجدها ضالة مشردة. حتى الكلب مختار خاف من «عواء» غريب المباغت وهو يصرخ بكل ما به من قهر، مبدداً وحشة وسكون تلك البقعة الخالية. «لست من سلالة سيزيف يا صاحبي، ولن أقوى على صعود تلك التلة التي يقف عليها يوسف. في الماضي، كان يأتي إلى هذا الملاذ ليحلم ويوظب أمنياته. اليوم يجيء للبكاء على أحلامه أو حتى لرثائها، وتقيؤ تلك الذاكرة التي يقف على بابها فدائيّ َ يقبّل بندقية ذات طفولة، فكان أنّ الفدائي ذاته هو من أبكاه، عندما ملّ حراستها وغادرها.»
استثمر الروائي قدرته اللغوية القوية جنس الرسائل. فهي محملة بالأشواق والحنين، بالخصوص حبه لأمل التي شكلت له لحظة فرح وفسحة سردية جميلة داخل النص الروائي. أمل لا تشبه أي إنسان آخر، فيها من العفوية والحب الكثير. من خلال قصتهما نتعرف كيف التقى بها وكيف شعر بقوة حضورها. كل شيء بدأ حينما اقترب منها ذات مرة بلباقة سائلاً عن مدى معرفتها بما يرمز إليه وشم حنظلة الذي يزين كتفها. عقدت حاجبيها من دهشة السؤال؛ فهو كان يظن أنها فعلت ذلك من باب التقليد، ولا تعرف شيئاً عن قصة حنظلة ولا عن رمزيته. فقد افترض أنها تجهل ما تحمله من وشم، لكنه سرعان ما أدرك أن ظنونه لم تكن في مكانها، وأن الفتاة ممتلئة بكل ما يدور من حولها من أحداث، وأن حنظلة جزء من ذاكرتها الجمعية الوطنية. فوجئ بها تعلمه كل التفاصيل التي ربما كان يجهل جزءاً كبيراً منها. لم تكن أمل شابة عادية، ولكن وعيها كان قوتها الداخلية؛ إذ هي من سيفضي له عن شخصية «هلا» أو «هيلانة» وعن سرها.
شخصيات نسوية كثيرة يزخر بها النص، وكلهن داخل دوامة التحولات السياسية التي عصفت بكل اليقينيات التحررية منذ توقيع وثائق «أوسلو» التي سرقت، كما يقول غريب، من الفلسطيني حقه الشرعي في النضال والعودة إلى أرضه، وليس التحول إلى جزء من الخيبة العامة. من تكون «هيلانة» داخل هذا المشهد المعقد؟ هل هي امرأة عادية؟ هل هي خائنة؟ ما الذي جعلها تتحول بكل تلك القوة؟ «دنيا» تعرف حقيقتها، لهذا عندما سألها غريب عما تفعله، أخبرته أن هيلانة هي من أوصاها بالسهر على راحته. لكنه لم يكن مرتاحاً، كان يريد أن يعرف الحقيقة كلها عن «هلا» أو «هيلانة». «فقط أردت معرفة القليل من علاقاتها المتشعبة، هذا من جهة، وكذلك أود معرفة موقفها النهائي مما يدور. حتى هذه اللحظة أجهل في أيّ صفٍ تقف. ربما هذا دافع سؤالي». أجابته دنيا بأن الحديث عنها بالتفاصيل يحتاج إلى فترة طويلة؛ فهي تتحفظ من أي نقاش. لكن شيئاً ما غيرها منذ أن قتل خالها الكبير في لبنان على يد المقاومة بسبب تعامله مع العدو. مع قتل خالها الثاني في مخيم جنين، تغيرت جذرياً، فقد بدأ الغموض يلف شخصيتها. خالها كان مقرباً من جيش الاحتلال، بل كان ضابطاً فيه. وربما كانت «هيلانة» تستدرجه لتوريطه مع جيش الاحتلال. دنيا العاملة بالمحل متأكدة من ذلك، لذا عليه أن يحذر، فالمخاطر التي تحيط به حقيقية.
الرواية بهذا المعنى سياسية بامتياز، لكنها لم تسقط في مقتل الرواية العربية السياسية والتاريخية: الخطاب الذي يقصي كل جمالية. فقد بني رائد الشافعي نصه بشكل يقنع قارئه من خلال وسائله الفنية في بناء الشخصية أو التعمق في نفسيات الشخصيات وما تخزنه من آلام.