رواية منازل العطراني تنصف ضحايا أحداث عام 1963م
نبيل عبد الأمير الربيعي
استطاع الدكتور جمال العتّابي أن يوثق ضحايا أحداث انقلاب 8 شباط 1963 من خلال روايته (منازل العطراني) الصادرة مؤخراً عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وبواقع (253) صفحة من الحجم المتوسط، وبتصميم رائع للدكتور فرات جمال، وهي الرواية الأولى للكاتب جمال العتابي.
حين علمت بإصدارها وأنا بشوق للاطلاع عليها، وكان قلبي يرشدني أن الدكتور سيرسلها اهداءً، وكان ذلك، استلمتها وأنا اتمعن بتفاصيل أدوار أبطالها، وأماكن أحداثها وهذا ما كان، فقد كتبها من القلب، وهو ينقل لنا الأحداث بشكلٍ مفصل ومذهل للأماكن والأحداث.
بطل الرواية محمد الخلف المعلم من مدينة الخضر جنوب مدينة السماوة والسجين السياسي الهارب من السجن وهو يواجه أحداث انقلاب شباط 1963م. يروي لنا العتّابي اصداء سور السجن التي تنشد لنا نشيدهم (السجن ليس لنا نحن الأباة… السجن للظالمين الطغاة). ثم ينقلنا بحوار حول نتائج الانقلاب ومقتل الزعيم قاسم والثرثرة في الباص الخشبي ص14: (الزعيم ما زال يقاوم من مقره في الدفاع، معه عدد قليل من معاونيه. فقراء الشاكرية والصالحية وحي الأكراد والكاظمية يحملون السلاح ضد الانقلاب. عبد الكريم قاسم كان لا يثق بالشعب وحتى في أصدقائه المقربين إلى آخر لحظة. والله يبين الأمور محسومة لجماعة الانقلاب… الفلاحون البسطاء يدركون مقدار حماقة القائد العسكري). بهذه الكلمات ينقلنا لواقع حال ساعة الانقلاب، والدكتور العتّابي قد عايش تلك اللحظات، وهو الذي يحلل النتائج وينقلها لنا بحوارية رائعة من خلال بطل الرواية محمد الخلف المولود في قلعة سكر.
لقد انصف الدكتور العتّابي ضحايا الانقلاب، والقتلة المتعطشين للدماء، وهو يصف لنا لحالة مقتل الزعيم في دار الإذاعة. وبسياحة ممتعة جمع العتاّبي أساليبه السردية المتعددة بصفحات الرواية، وهي مزيج من الأحلام والانكسارات، فكتبها بذهنية ممن استوعب التاريخ. أجد في رواية منازل (العطراني)، يرغب الروائي فيها أن ينقل لنا كشاهد على زمانه، وقد كتب لنفسه قبل أن يكتب لأي أحداً آخر في العالم، فهو ادرك خراب العراق نتيجة طبيعية للفشل الشامل المستمر مُنذُ عقود عدة في العثور على جوابٍ صحيح لإشكاليات مجتمعنا. فرواية (منازل العطراني) أجد فيها ذلك النص المستكشف في رحلة الروائي العتّابي بعد انقلاب 1963م، وذلك العالم المجهول بعد الانقلاب، فلا يعرف المبدع نفسه كروائي في كثافة أدغاله المتشابكة، إلا بعد أن كان منجزه واضح القسمات، بعد عناء الروح وغربتها لبطل الرواية (محمد الخلف)، فيفتح الروائي ذراعيه لاستقبال قاطني بلده من التردد، ليمسكوا بمجساتهم المرهفة، فدهشة الروائي وحلمه في تجاوز ما هو كائن، فالكتابة تناسل وحبل، ومن ثم ولادة نصوص.
ففي ص19 يربط الروائي (رائحة الدخان المتعالي من أطراف المدينة، برائحة نفط أسود مشتعل لشواء الطين في كورٍ بدائية تصنع الفخار، توارثها العراقيون من أجدادهم السومريين)، بهذه الكلمات يؤكد لنا الربط بين صناعة الفخار الموروث من قدماء العراقيين، ثم ينقلنا بلحظات خاطفة وبطيئة إلى قرية العطرانية ومنزل اخته (أم عباس) الملجأ الأخير للهروب من عناصر الحرس القومي.
الرواية فيها الكثير من الأوصاف الأدبية الجميلة التي لا تتكرر أمثال (“مزموم الفم”، “الريح نحسٌ في الشتاء تسرق نعاس الأطفال في الليالي”، “النجوم الشفيفة كانت تضيء”، “أسمع صرخاتها كبكاء النوارس في صباحٍ شاحب”، “الويل لمن يتنصت على قلبه أو يسترق السمع لرئتيه، هذا البلط يقتل الصمت”، “ليرى مشهد المدينة المسوّر بالخوف والترقب”، “أعمدة تلغراف صدئة يحوم حولها غرابٌ أسود”).
فالروائي كان متمكناً من أدواته في السرد والتسلسل التاريخي للأحداث، ليجد القارئ نفسه يعيش تلك الأجواء كحقيقة مرعبة، ينتقل مع بطل الرواية عبر تسلسلها الزمني، خائف عليه ليسقط في أيدي عسس الليل أو عناصر الحرس القومي. نجد الروائي يعاني من واقع حال ما يعيشه المجتمع العراقي مع الطغاة والقادة المتجبرون بالأمس واليوم. ومع ذلك فإنه لا يستطيع إلا أن يكتب من خلال طموح الاعتراف بموهبته التي لن تفارقه، فيتعلق بالهدف من خلال روايته التي يضفيه على نفسه وعلى كتابته. فالاعتراف به يعني الاعتراف بدوره الاستثنائي داخل المجتمع. ونجد ذلك في صفحات روايته ص33: حين تلومه والدته على دخوله المعترك السياسي (خلّي سلاتين يسلتكم!!)، ترددها كنوع من العتاب لأم متلهفة لإبنها الكبير وهو منصرف عنها للعمل السياسي، و(سلاتين) هنا تقصد به القائد الشيوعي (ستالين)، أو في ص40 حينما ينقلنا الروائي لحال عائلة محمد الخلف حينما تتحدث زوجته لأبو عباس المرسل كي يجمع اطراف العائلة في قرية العطراني: (كما ترى يا ابن عمي، انقطع خالد عن الدراسة لا أظن أنه سيعود إليها، لديه خشية من الاعتقال، البقاء في البيت بعيداً عن عيون العسس أسلم له من التجوال، محسنة انصرفت للخياطة ليل نهار بأجور توفر بعض احتياجاتنا اليومية، عامر يلفّ الأزقة في دراجته منذ الصباح الباكر يبيع الصمون قبل الذهاب إلى المدرسة، أما عادل فما زال صغيراً لديه رغبة بالمشاركة). هذا هو واقع حال عائلة السياسي في عراق الثورة والثروة، ثم ينقلنا الروائي في ص43 إلى حال العاصمة بغداد وكثرة نقاط التفتيش للبحث عن أخوة الأمس وخصوم اليوم.
شخوص الرواية قد صاغها ونسجها بتأني وبدقة عالية ليظهرهم من الواقع الذي جعلنا ندور مع افلاكه وهم يتعذبون بسياط الدكتاتورية أمثال: محمد الخلف صالح كيطان، نوار، خالد، عويد، رضية، فطيم، وغيرهم.
الرواية تتسابق الأحداث فيها بوصف تنقلك من حدث إلى آخر، وتوثق الواقعية التاريخية والأدب الحقيقي. ويصعب عليَّ هنا أن أقدم ملخصاً للبنية المركبة للرواية وبناء فصولها، إذ ما يهمني هنا هو الإشارة إلى الروح الملحمية التي تكتنف السرد، حيث يختلط الواقع بالأسطورة، والحقيقة بالحلم، والبطولة بالفكاهة، والبشر بالملائكة والشياطين. وتشكل موضوعة الرواية الضحية والجلاد وجوهر تأريخها الإنساني كله، فثمة دائماً جلاد وضحية، ليس في السياسة وحدها وإنما في كل ما يرتبط بالحياة الإنسانية، بقدر ما يهدم الجلاد الضحية؛ تهدم الضحية جلادها. هذا هو ديالكتيك التاريخ نفسه. من عادة العتّابي أنه لا يترك ثيمّةً أو موقفاً أو وصفاً في مسار السرد إلا ويعتصره عصراً من خلال الطرق المتكرر، وعلى مفاصل مختلفة مرة، إلى أن يفككها تماماً، وهذا ما وجدته في روايته (منازل العطراني) التي يتكون عنوانها من كلمتين. فضلاً عن أن الرواية تحمل موقف استشهاد (عامر)، كذلك موقف الزوجة (زهرة) التي تمثل الزوجة العراقية المضحية.
الرواية تمثل سيرة ذاتوية بعد ربط الرواية بمذكرات الأديبة والصحفية منى سعيد الطاهر (جمر وندى) الصادرة عن دار سطور، والمتزوجة من الشهيد سامي العتّابي، والمتمثل بالرواية باسم (عامر). فالسرد الذي تسير به الأحداث حين تعرض منى سعيد الطاهر رحلة الخوف هذه، والهروب والتخفي من الاعتقال حتى تنال الأجهزة الأمنية من زوجها، و(سما) هي يمام ابنتها كانت في عمر الشهرين وبدسائس لا تجد للآن تبريراً لها ينال سامي حصته من التعذيب والشهادة.