اسم العراق وبلاد الرافدين وكلمة سومر كما رصدها العلامة طه باقر
علاء اللامي*
في كتابه التأسيسي الأهم “مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة” يلاحظ مؤسس الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا العراقية الحديثة الراحل طه باقر أن آراء الباحثين اختلفت في أصل اسم العراق القديم ومعناه. وتتوزع الآراء على ثلاثة احتمالات؛ الأول هو الأصل العربي لكلمة عراق؛ والتي تعني شاطئ البحر أو الشاطئ مطلقاً، والاحتمال الثاني الفارسي من كلمة (إيراه) أي الساحل بالفارسية، وعربها العرب إلى عراق، أو من الفارسية “إيراك” كما يرى الباحث هرتسفلد والتي تعني البلاد السفلى والاحتمال أو التفسير الثالث الذي يعيد الاسم إلى التراث اللغوي العراقي القديم “الرافداني” والأكدي تحديدا.
أعتقد شخصياً أن التفسير الفارسي هو أضعف التفاسير والاحتمالات المعروضة هنا، لأن الفرس شعب حديث النشأة والظهور على المشهد التأريخي في المشرق، فلم يكن له ذكر قبل أن يُسْقِط الدولة البابلية الحديثة “الكلدانية” في القرن السادس ق.م، ويدمرها بحرب غادرة بعد أن كانت حليفته ضد الدولة الآشورية، ولكنه غدر بها وأسقطها سنة 539 ق.م، بل أن دولة عيلام في جنوب غربي إيران الحالية وذات اللغة التي لا علاقة لها باللغة الفارسية أقدم من الدولة الفارسية الأخمينية بكثير، في حين أن دول حضارة وادي الرافدين تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل ظهور الفرس الأخمينيين. وطَوال قرون السيطرة الفارسية على العراق القديم لم نجد أثرا لهذا الاسم سواء بلفظ “إيراه” أو “إيراك” بالمعنيين المذكورين. والراحل طه باقر نفسه يذكر في موضع آخر من كتابه أن اسم العراق لم ينتشر بهذا اللفظ إلا في أواخر العهد الفارسي الساساني أي في عصر ما قبل الإسلام “العصر الجاهلي”. وعلى هذا، يمكن الاستنتاج أن تكون كلمتا إيراه وإيراك الفارسيتان ذاتيْ أصل رافداني كما سنوضح بعد قليل مع اسم “إيرقا” الذي ظهر في القرن الثاني عشر ق.م. ويبقى الاحتمال الثالث والأخير وهو الأصل الرافداني القديم لاسم العراق وهو شديد الصلة والارتباط باسمين رافدانيين قديمين، وفيه يفصل باقر فيقول:
يعتبر طه باقر هذا الرأي القائل بالأصل الرافداني “رأيا جديراً بالاعتبار رغم عدم إمكانية الجزم به تماما” كسائر المواضيع والاسماء التأريخية التي لا تتوفر نصوص كافية ودامغة تؤكدها. وخلاصة الرأي الأخير هي أن اسم العراق يرجع إلى تراث لغوي قديم سومري أو لقوم قبل السومريين (صدر كتاب باقر سنة 1951 ولم يكن أحد يشكك آنذاك بوجود السومريين كشعب، كما هي الحال الآن. رغم أنه أبدى بعض الملاحظات التي يفهم منها أنه لا يتفق مع بعض كريمر الذي رسخ وجود السومريين كشعب وحاول أن يجعلهم أسلافا للعبريين كما يقول تلميذه الباحث نائل حنون).
ووفقا لهذا الرأي لباقر فإنَّ اسم العراق مشتق من كلمة مستوطن، وتلفظ (أوروك / أونوك). وأصبحت هذه الكلمة اسما لمدينة أوروك (عُربت إلى الوركاء). ونقطة ضعف هذا الافتراض أن هذا الاسم “أوروك” لم يتم تعميمه بهذا اللفظ ليطلق على البلاد كلها. ويبدو أن الراحل طه باقر أغفل هنا قرب هذا اللفظ من اللفظ العربي بعد تحولاته التي يوجبها المذاق اللغوي العربي والظرف التاريخي المتغير من أوروك إلى عوروق إلى عُراق وأخيرا عِراق. ثم يتوقف باقر عند رأي الباحث الأميركي إلبرت أولمستيد مؤلف كتاب (HISTORY OF ASSYRIA)، غير المترجم إلى العربية، وفيه يذكر على ص 60، أن أول استعمال لكلمة عراق جاء في وثيقة تأريخية ترقى في تأريخها إلى العهد الكيشي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وجاء فيها اسم إقليم على هيئة “أريقا” الذي صار هو الأصل العربي لبلاد بابل. وأعتقد أن هذا الرأي هو الأقوى والأرجح بين الآراء المطروحة هنا. ويستعرض باقر ولادة وتحولات اسم الإقليم عبر التأريخ كالآتي:
*كان حكام دويلات المدن في العراق القديم، في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، يلقبون أنفسهم باسم (المدينة / الدولة) التي يحكمونها فيقال “حاكم لجش = آنسي لجش” أو “حاكم أور = آنسي أور”. وفي حدود أواخر ذلك العهد الذي يسمى عصر فجر السلالات (2800 – 2400 ق.م) ابتدع الحاكم لوكال زاكيزي اسما ملكيا لنفسه هو (ملك الأقاليم، تكتب بالعلامات السومرية = لوكال – كلام – ما). وكلمة أو علامة (كلام) تضاهي إقليم العربية لفظا ومعنىً. وتعني تحديدا وطن الشخص. أما كلمة (كور) فتعني بلاد أجنبية.
*في حدود ذلك الزمن أو بعده بقليل ظهر اصطلاحان جغرافيان مهمان الأول هو (بلاد سومر وبالعلامات السومرية = كي – إن – جي) للقسم الجنوبي من السهل الرسوبي العراقي القديم والثاني هو (بلاد أكد وبالعلامات السومرية= كي – أوري) للقسم الأوسط من ذلك السهل.
*في الكتابات الأكدية السامية تكتب بلاد سومر (مات شومريم) ولا تعني هذه العبارة أية إحالات قومية إلى شعب أو عِرق محدد بل تعني حرفيا “أرض سيد القصب” أي أنها وصف للبيئة التي عاش فيها الناس في جنوب العراق المكتظ بالقصب والبردي والمستنقعات. أما العبارة التي ترجمها كريمر إلى السومريين أو الشعب السومري فهي ” ساد دك” أي سود الرؤوس وهي تضاهي العبارة العربية “سواد الناس” أي عامة الناس وتلفظ باللغة الأكدية “صالمات قاقدم”. وربما كانت هذه العبارة تضاهي من حيث المعنى عبارة في لهجات المغرب العربي هي “كُحل الروس/ أو الراس الكحلا” كما سمعتها في الجزائر الوسطى في ثمانينات القرن الماضي كصفة وتشير العبارة إلى الناس ذوي الأصل العربي أو إلى عامة الناس في مقابل المستعمرين الفرنسيين البيض السابقين. أما بلاد أكد فكانت في اللغة الأكدية تلفظ (مات آكاديم) أي بلاد الأكاديين بمعنى الناس الناطقين باللغة الأكدية.
*استعمل الملك سرجون الأكدي مؤسس السلالة الأكدية (2371 – 2316 ق. م) أو حفيده نرام سين (2291- 2255 ق.م) لقبا سياسيا جديدا هو ملك الجهات الأربع (بالعلامات السومرية = لوكال – أن – اوب – دال – ليمو –با) وفي الأكدية (شار – كبرات – أربايم) لاحظ كلمة (أربايم) التي تضاهي لفظا ومعنى كلمة (أربعة) العربية.
*وفي أوائل عصر سلالة أور الثالثة (2112 -2004 ق.م) وفي عهد الملك أوتو حيكال الذي حرر الإقليم من الاحتلال الكوتي ظهر اسم ملك بلاد سومر وأكد واستمر خلفاؤه في استعمال هذا اللقب إلى جانب لقب (ملك مدينة أور). وظل هذا اللقب مستعملا حتى عصور متأخرة.
*استُحْدِثَت أسماء أخرى في عصور لاحقة منها بلاد بابل (بابيلونيا) وبلاد آشور (أسيريا) ومن هذا الأخير سيشتق الغزاة السلوقيون اسم ولاية “سوريا” في القرن الرابع ق.م، ويطلقونه على أجزاء متجاورة شرق وغرب نهر الفرات. وابتكر الكيشيون الذين استولوا على الإقليم بعد سلالة بابل الأولى في منتصف القرن الثاني عشر ق.م، اسم (كار دونياش) أي ” بلاد دونياش”. ودونياش هو أحد الآلهة الكيشية.
*الكيشيون شعب جبلي لا علاقة له بالفرس ولا بالإغريق لغةً وأرومةً وثقافةً، وقد اجتاح بلاد الرافدين منطلقا من موطنه في جبال زاغاروس واستولى على بابل سنة 1551ق. م وأقام سلالة حكم اندمجت بالحضارة الرافدانية واتخذت لغتها وأديانها ثم هزمها العيلاميون فزالت من الوجود سنة 1155 ق.م في عهد ملكها الكيشي البابلي إنليل نادين أخي.
*وقد استعمل بعض المؤرخين والجغرافيين الإغريق والرومان وأولهم هيرودوتس اسم بابيلونيا واسم آسيريا أي بلاد آشور على الإقليم كله او على الجزء الأوسط والجنوبي منه. ونذكِّر بأن اسم (أسيريا) تحول في القرون اللاحقة وبالضبط في عهد الاحتلال الإغريقي السلوقي (307 ق.م) إلى اسم مقاطعة سوريا المحتلة كما أسلفنا والتي تقع في سوريا العربية الحالية والجزء الغربي من بلاد آشور (مات آشور) القديمة في العراق الحالي. كما استعملوا اسم بلاد كالدية أو كلدية نسبة إلى الكلدان الآراميين الذين حكموا بلاد الرافدين قبل انتهاء عصر الحضارات الرافدانية القديمة.
*بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد ظهر كتابات اليونانيين والرومان المصطلح الجغرافي المعروف بلاد ما بين النهرين بالتسمية الإغريقية (ميزوبوتامية) وشاع استعماله عند الكتاب الأوروبيين لإطلاقه على هذه البلاد كلها أو بعضها. وأوضح استعمال لهذا المصطلح ورد في كتاب المؤرخ الروماني بوليبيوس (202 -120 ق.م) وبعده استعمله سترابون وأطلق الاسم على الجزء المحصور بين دجلة والفرات حتى حدود بغداد المعاصرة.
إن انتشار هذا المصطلح يعود إلى الترجمة السبعينية لتوراة إلى اللغة اليونانية في عهد البطالمة في القرن الثالث ق.م.
*لكن الإقليم الذي ورد ذكره في التوراة باسم “آرام نهاريم – سفر التكوين: 10-24” وتعني “بلاد ما بين النهرين” يرجح أن المقصود به تلك الأرض الوقعة بين نهر الفرات ورافده الخابور أو رافده البليخ أو كلا هاذين النهرين مع الفرات وليس البلاد كلها. ولكن، وبعد أن تم ترجمة هذا الاصطلاح الى اليونانية من التوراة السبعينية، شاع في اللغات الأوربية وصار يعني بلاد العراق القديم كلها.
*وقد وردت تسمية بابلية قريبة من التسمية التوراتية وأقدم منها بأكثر من الأف عام وهي (مات بريتم) أي “أرض المابين”. كما ورد اسم “بريت نارام = بلاد مابين النهرين” واسم ” نهارينا ” الذي أطلق على المملكة الميتانية شمال بلاد الرافدين في تركيا المعاصرة في وثائق تل العمارنة بمصر والمكتوبة باللغة الأكدية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
*وفي أواخر عهد الاحتلال الفارسي الساساني للعراق ساد اسم العراق عند العرب في العصر الجاهلي، وتكرس في أشعارهم. واقترن اسم العراق عندهم بالرخاء ووفرة الخيرات، إلى جانب أسماء من قبيل أرض السواد لخضرته ووفرة المزروعات وغابات النخيل فيه، واسم (عراق العرب) تمييزا له عن (عراق العجم) الذي يشمل / إقليم عيلام في جنوب إيران.
*صورة غلاف الطبعة الثانية من الكتاب وهناك طبعات مقرصنة منه طبعت بعد احتلال العراق من قبل دور نشر لم تحصل – كما قيل – على أي إذن من ورثة العلامة الراحل أو تمنحهم حقوقهم من عائدات الكتب! ولكن الطبعات اللاحقة التي صدرت في حياة العلامة باقر كانت أكثر تدقيقا ومزيدة كما قال هو نفسه في مقدمته لآخر طبعة من الكتاب وهي التي اعتمدتها كمرجع في كتابة هذه المقالة والمقالات الشبيه بها.