فيلم «جسر ووترلو»: سحر الرومانسية والطبيعة البشرية
يكشف فيلم «جسر ووترلو» Waterloo Bridge الكثير عن الطبيعة البشرية وميول السينما الغربية، فالإنسان بشكل عام يشاهد ما يحتاجه من الناحية النفسية، وفي الوقت نفسه يتأثر بما يشاهده. ويعد هذا الفيلم أحد رموز السينما الغربية بالنسبة للأفلام الرومانسية، التي تشكل جزءا أساسيا من تاريخ السينما العالمية، لاسيما أن نجميه، فيفيان لي وروبرت تيلر، كانا الأشهر في السينما الغربية في تلك الفترة.
أحداث الفيلم
تبدأ أحداث الفيلم عام 1939 عندما أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا وتبدأ الحرب العالمية الثانية. ويستلم العقيد «روي كرونين» (روبرت تَيلر) الأمر بالتوجه نحو فرنسا للالتحاق بالجبهة، لكنه توقف عند جسر ووترلو وتمعن النظر في نهر التيمز غارقا في ذكرى «مايرا ليستر» (فيفيان لي) وحاملا دمية صغيرة كانت قد أعطتها له لجلب الحظ. وتذكر «روي» كيف التقى بها أثناء الحرب العالمية الأولى على هذا الجسر بالذات عندما كان نقيبا في الجيش في طريقه لحضور حفلة عشاء نظمها قائده العقيد. وبدأ كل شيء أثناء سيره على الجسر، التقى راقصة الباليه الجميلة «مايرا» (فيفيان لي) التي ارتعبت عندما سمعت صافرات الأنذار فقادها إلى أحد الملاجئ. وهناك تبادل الحديث معها وأخبرته أنها ستشترك في عرض باليه في ساعة متأخرة من ذلك المساء. ولذلك أهمل «روي» دعوة العشاء لدى العقيد وذهب إلى المسرح لمشاهدتها وذهل بجمالها ورقتها، فأرسل إليها رسالة حب، إلا أن مديرة الفرقة عثرت عليها ووبخت «مايرا». ومع ذلك نجح «روي» في الاتصال بها وقرر الاثنان فورا الزواج، لكن هذا لم يكن ممكنا لأن القيادة العسكرية قررت نقله إلى فرنسا على وجه السرعة لقتال الألمان، فأعطته دمية صغيرة لا تفارقها لظنها أنها تجلب الحظ، وغادر إلى فرنسا بعد أن حصل على موافقة قيادة الجيش على زواجه. لكن مشاكل «مايرا» كانت في بدايتها، حيث تم فصلها هي وصديقتها المقربة من فرقة الباليه بسبب خلاف مع مديرتها، وينتهي بهما المطاف في شقة صغيرة. وتبدأ محاولات الفتاتان في البحث عن عمل. واستلمت «مايرا» رسالة منه بعد رحيله يخبرها بأن والدته ستأتي إلى لندن لمقابلتها وترحب «مايرا» بهذه الفرصة، فتذهب إلى المطعم المتفق عليه، إلا أن والدة «روي» تأخرت، ولذلك قررت «مايرا» قراءة الصحف لقضاء الوقت. وإذا بها تقرأ خبر مقتل «روي» وتصل والدته بعد لحظات.
لم تستطع «مايرا» إخبار الوالدة بهذه الخبر المفجع وبدت غير ودية، ما أعطى والدة «روي» انطباعا سيئا عنها. وتكتشف أن صديقتها التي تسكن معها تعمل سرا في مجال الدعارة، وسرعان ما جعلها ضيق الحال تنضم إليها في ذلك المجال في منطقة ووترلو، لاسيما محطة ووترلو للقطار التي كانت نقطة الانتقال الرئيسية للجنود بين الجبهة في فرنسا وبريطانيا. وفي أحد الأيام وأثناء وجود «مايرا» في المحطة لاصطياد زبائنها من الجنود تشاهد «روي» وكان قد وصل لتوه من الجبهة. ولم تصدق «مايرا» عينيها، وسرعان ما رآها «روي» وركض نحوها غير مصدق. وجلس العشيقان في أحد المقاهي، حيث طمأنها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، دون أن يخطر بباله حقيقة عملها. وأخذها «روي» إلى منزل عائلته الأرستقراطية والبالغة الثراء، وقابلت والدته التي رحبت بها. وأقامت العائلة حفلا كبيرا، حيث دعت أفراد الطبقة الأرستقراطية الذين أثار «روي» استغرابهم، لأنه اختار فتاة من الطبقة غير الأرستقراطية. وحضر الحفل عم «روي» وهو جنرال بارز، حيث رحب بـ»مايرا» أجمل ترحيب وأكد لها اقتناعه بانها ستكون خير زوجة لـ»روي» وأنها قادرة على الحفاظ على مركز العائلة وتقاليدها وتاريخها العريق، بغض النظر عن ما تظنه بقية العوائل الأرستقراطية. لكن «مايرا» انهارت لعدم رغبتها في خداع «روي» واحتمال تلويث شرفه وخداع عائلته، فشرحت الأمر لوالدته ثم تركت رسالة لـ»روي» تبلغه بعدم إمكانية زواجهما، وأنها ستختفي من حياته. لكن «روي» فقد صوابه وذهب إلى لندن للبحث عنها، حيث لجأ إلى صديقتها المقربة التي أكدت له عدم معرفتها بمكان «مايرا». ولذلك بدأ الاثنان البحث عنها في الأماكن التي كانت «مايرا» ترتادها أثناء عملها في مجال الدعارة، وفهم بسرعة طبيعة عمل «مايرا». أما «مايرا» فقد ذهبت إلى المكان الذي التقت فيه بـ»روي» لأول مرة، أي على جسر ووترلو، لتنتحر بإلقاء نفسها في النهر.
تحليل الفيلم
يعد فيلم «جسر ووترلو» مثالا مهما لدارسي فن السينما، حول صناعة فيلم ناجح وطريقة تسويقه، فقد كان الإخراج بارعا في طريقة عرض قصة بسيطة ومقتبسة من مسرحية «روميو وجولييت» بشكل رائع وأعطى للقصة شكلا واقعيا. وكان تطور الأحداث في الفيلم سلسا بحيث لا يشعر المشاهد في أي لحظة من الملل. وكان اشتراك فيفيان لي في الفيلم عاملا مهما في إنجاحه، إذ كانت قد أصبحت أشهر ممثلة في العالم، بعد أن أنهت فيلمها السابق، أي «ذهب مع الريح» وامتازت هذه الممثلة الفريدة من نوعها بأنها الوحيدة التي قامت بالبطولة المطلقة في ثلاثة أفلام، تعتبر علامة فارقة في تاريخ السينما وأن ممثلين كبار أدوا أدوار ثانوية فيها. ولم تخيب الممثلة الكبيرة الآمال بسبب العرض الرائع الذي قدمته. ويعد مشهد انتظارها في محطة القطار من الأشهر في تاريخ السينما العالمية، إذ استعملت الممثلة تغير تعابير وجهها ونظراتها لشرح المشهد للمشاهد، دون أن تتفوه بكلمة واحدة. ولا يدل هذا على براعتها هي فقط، بل مهارة المخرج والمصور كذلك، أما روبرت تَيلر، وعلى الرغم من أن دوره كان ثانويا، فقد أدى دوره بكفاءة عالية، وبدا لأول مرة ذا شخصية مرحة ومحبوبة، وأعطى الانطباع بأنه ضابط من عائلة راقية، لكنه ظهر كضابط أمريكي، وليس بريطانيا.
والسبب في ذلك أنه تكلم طوال الفيلم بلهجة أمريكية راقية وواضحة، كما أن شخصيته الأمريكية كانت واضحة، حتى إنه أدى التحية العسكرية حسب الطريقة الأمريكية في أحد المشاهد. لكن هل كان ذلك مصادفة؟ من الممكن أن نستنتج أن هذا كان مقصودا لأن الفيلم كان للجمهورين البريطاني والأمريكي.، وأرضى القائمون على الفيلم الجمهور البريطاني من خلال كون البطولة المطلقة للفيلم لأشهر وأجمل ممثلة في بريطانيا، وأن الأحداث تقع في بريطانيا. وأرضوا الجمهور الأمريكي عن طريق إشراك أحد نجوم السينما الأمريكية في دور الرجل التي تحبه نجمة الفيلم. ولذلك كان من الضروري إظهار الشخصية الأمريكية للدور. لكن كانت هنالك عوامل مهمة أخرى لعبت دورا مهما في تسويق الفيلم، فإن كون الشخصية الرجالية أمريكية والشخصية النسائية بريطانية، يرمز إلى التحالف الأمريكي ـ البريطاني في الحرب العالمية الثانية، التي بدأت عام 1939. ويعد الفيلم دعاية للجيش البريطاني، إذ هدف «مايرا» كان الحفاظ على شرف حبيبها الضابط وسمعته.
تعد قصة الفيلم الرومانسية استمرارية للقصص التي كانت تثير مخيلة العامة ومنتشرة في الثقافة الأوروبية منذ العصور الوسطى عن الفرسان وحبيباتهم، أي أن الشخصية التي مثلها روبرت تيلر في الفيلم كانت في الحقيقة شخصية الفارس المغوار في التراث الأوروبي. قد يظن المشاهد أن الفيلم بالغ في الكثير من جوانب الحياة البريطانية في تلك الفترة، لكنه في الحقيقة كان محقا في الكثير من الجوانب، فمثلا لم يكن الضابط البريطاني قادرا على الزواج دون موافقة قيادة الجيش البريطاني، لأسباب أمنية والحفاظ على سمعة الجيش. وكان أغلب الضباط البريطانيين آنذاك من خيرة عوائل المجتمع البريطاني الراقي، حيث كانت تلك العوائل تفتخر بكون أجيال منها في خدمة الجيش البريطاني. ولم يخطئ الفيلم حول مقابلة والدة «روي» لـ«مايرا» فقد كانت العوائل البريطانية من الطبقة الراقية والمتوسطة تستنكر زواج أبنائها من فتيات قد تعرض مركز الابن والعائلة الاجتماعي والمهني للخطر. ولذلك تصر عائلة الخطيب على مقابلة الخطيبة المقبلة. ويجعل هذا مقابلة والدة الضابط لحبيبته منطقية، وكان مشهد استنكار العوائل البريطانية الراقية لعدم اختياره فتاة منها كذلك واقعيا جدا، لكن المبالغة الحقيقية في الفيلم كانت انتحار «مايرا» فهذا الانتحار كان أهم أحداث الفيلم وأقواها وقعا في نفسية المشاهد، تضحية المرأة بنفسها أعمق تأثيرا في المشاهد من تضحية الرجل.
قد تكون نقطة ضعف الفيلم الرئيسية أن القصة كانت أكثر ملاءمة لشخصيات أصغر سنا، فكانت فيفيان لي في السابعة والعشرين من عمرها، بينما كان روبرت تَيلر في التاسعة والثلاثين. وليس هذا مفاجئا، فقصة الفيلم مأخوذة من مسرحية عرضت في منطقة برودوَي في نيويورك عام 1930 حول علاقة حب بين فتى وفتاة أمريكيين في التاسعة عشرة من عمرهما في لندن. وقد أدعى مؤلف المسرحية آنذاك أن القصة مقتبسة من لقاء له مع فتاة أمريكية على جسر ووترلو. لكن ادعاء ان القصة ذات أصول حقيقية، حيلة تسويقية يستعملها الكثير من المؤلفين.
لماذا ووترلو
لم يكن اختيار جسر ووترلو كعنوان عفويا، بل في صلب موضوع قصة الفيلم، فمنطقة ووترلو التي تشمل محطة قطار وجسر ووترلو، كانت أشهر منطقة في بريطانيا بالنسبة لعدد العاهرات. وكانت محطة ووترلو للقطار المحطة الرئيسية في بريطانيا للجنود المتنقلين بين الجبهة في فرنسا وبريطانيا، ما جعلها المكان الأكثر ملاءمة للعاهرات للاقتراب من زبائنهن. وجعل هذا وجود شخصية «مايرا» في المحطة ولقائها بـ»روي» معقولا لأنها كانت تعمل عاهرة.
الأفلام الرومانسية
كانت الرومانسية من السمات الرئيسية للسينما العالمية في الماضي، إذ كانت أشهر الأفلام العالمية من النوع الرومانسي مثل «ذهب مع الريح» و»كازابلانكا» و»عربة تدعى الرغبة» وطبعا «جسر ووترلو» حيث اعتمدت على الجانب الرومانسي بشكل أساسي، ما جعلها مرغوبة من قبل الجمهور والأشهر في تاريخ السينما. وتبين ظاهرة الرومانسية في السينما أن الإنسان يسعى إلى الرومانسية عند مشاهدته لهذه الأفلام، أي أنها ترضي حاجة ماسة في عقليته دون أن يعي ذلك. وتؤثر هذه الأفلام في الوقت نفسه على المشاهد بشكل لا أرادي، فتقوي ذلك الأحساس بالحاجة إلى الرومانسية، لكن هذا الجانب أخذ يضمحل في السنوات الأخيرة لسبب مجهول، حيث تخلو الأفلام الجديدة بشكل عام من هذا العنصر المهم. وقد لا يكون هذا علامة صحية بالنسبة للمجتمع الذي تكون هذه الأفلام الجديدة ذات شعبية لأسباب أخرى بين أفراده.
أجريت عدة دراسات على تأثير الأفلام الرومانسية في المشاهدين. وبينت هذه الدراسات أن الرومانسية تتمتع بشعبية في الأوساط الرجالية بقدر شعبيتها في الأوساط النسائية. وأن متابعي هذه الأفلام أكثر اهتماما على الحفاظ على علاقاتهم العاطفية.
اقتباسات مصرية
لم يكن لفيلم شهير مثل «جسر ووترلو» أن يفلت من براثن السينما المصرية التي سارعت إلى اقتباس قصته وتمصيرها في شكل غير منطقي في فيلم «دايما في قلبي» الذي عرض عام 1946 ومثل فيه محمود المليجي وعماد حمدي وزوزو نبيل. وأعادت السينما المصرية المحاولة عندما أنتج فيلم «وداع في الفجر» الذي مثل فيه كمال الشناوي وشادية»عام 1956. وامتاز هذا الفيلم بظهور الرئيس المصري السابق حسني مبارك في دور قائد سرب الطائرات الذي يزود الطيار كمال الشناوي بالتعليمات اللازمة قبل تنفيذ إحدى المهام الحربية.
مؤرخ وباحث من العراق