النمور في اليوم الـ67
نعرف جميعاً ما حدث للنمر، في حكاية الكاتب السوري زكريا تامر، في اليوم العاشر لحبسه في قفص. بل ما حدث بدءاً من اليوم الثاني فقط عندما اعترف النمر الشرس المتعجرف إثر تجويع يوم واحد: «أنا جائع»، فعرف المروّض اللئيم أنها بداية الانهيار، وأن النمر، القادم للتو من الغابات، وقعَ، بمجرد اعترافه، في فخ لن يخرج منه البتة.
هكذا تتالت انهيارات النمر، من حيوان نزق شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، إلى «مواطن» ممتثل في قفص المدينة الكبير، إلى جانب هذا العدد الهائل من «النمور» المجوّعة المروّضة. اعترف بالجوع، ثم بدأ ينصاع لأبسط الأوامر للحصول على لقمة العيش.
ففي اليوم الخامس، راح يقلّد مواء القطط بنجاح. وفي اليوم السابع اندفع ينهق مثل الحمار.
كان المروّض يعرف كلمة السرّ: «عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول»، ولذا فإن التجويع جاء مُمَنهجاً بخطة صبورة وعنيدة ومدروسة
وكانت الخطوات الأخيرة في مسيرة التحول من وحش إلى كائن من ورق انصياع النمر للتصفيق على كل ما يقوله مروّضه، قبل أن يحوّله نهائياً من نمر لاحم إلى خروف يتلذذ بالعشب، بعد تلكؤ ورفض وعدم استساغة، أما المرتبة الأخيرة فستكون مرتبة «المواطن» الخانع في مملكة الخوف.
كان المروّض يعرف كلمة سر كلِّ هذا: «عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول»، ولذا فإن التجويع جاء مُمَنهجاً بخطة صبورة وعنيدة ومدروسة.
في مساء يوم الثلاثاء، 12 الشهر الجاري، دخلت مجموعة من قوات النخبة الإسرائيلية «جولاني» حيّ الشجاعية الغزيّ، وعلى ما بدا، كانت القوة مطمئنة إلى حدّ كبير، حيث 67 يوماً من القصف العشوائي، الذي استهدف كل شيء تماماً، في قطاع غزة المحاصر والمُجوَّع أصلاً منذ 17 عاماً، كانت كفيلة بألا تظهر أي مقاومة، لكن القوة العسكرية الإسرائيلية بوغتت بمصيرها هناك، وبوغتت القوة التي جاءت لإنقاذها تالياً.
ليست المسألة هنا في البحث عن نصر ما يحاجِجُ به المرء خصوم النقاش، فالنصر والهزيمة لا يصلحان معياراً لإثبات حقك في المقاومة. ومن السهل إثبات أنهما نسبيان تماماً، إذا استعدنا مثلاً خسارة أمريكا الفادحة في فيتنام، مع العلم أن هذه الأخيرة دفعت أكثر من مليون قتيل، مقارنة بنحو 58 ألف أمريكي، وعن ظهر قلب بإمكانك أن تقول إن واشنطن تركت وراءها بلداً مدمراً. ومع ذلك، ما أسهل الحديث عن نصر فيتنامي ساطع، إلى حدّ أن المغني المصري ما زال إلى اليوم ينتظر بشارة فيتنامية نائمة تحت جلد الفلسطينيين.
ليست المسألة المحاججة بنصر، نعرف أن بإمكانك القول إن مدينة ممسوحة عن بكرة أبيها لا يمكن أن تُحْسَب في عداد المنتصرين، وأن الأثمان الباهظة، وما آلت إليه دول الربيع العربي، قد تساعدك في القول «ليتها لم تكن»، بحسب تأفّفٍ مبكرٍ لشاعرٍ قليل الموهبة، لكنك تغامر هكذا باحتقار حق الشعوب في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا والعراق وسواها بالثورة على حكامها، بل حتى حقها بأقل قدر من الاعتراض بذريعة أنها ستجابَه بوحشية..
كل ما يريد المرء أن يشير إليه الإرادة العظيمة لشعب الجبارين (وكل ذي حق جبار)، الذي لم يثنه جوع ولا حصار ولا ذبح يومي. كل هذا الجوع والحصار واستطاع الغزّيون «بناء» أنفاق مذهلة، كانت تقارير عبرية تحدثت عنها مبكراً، حتى قبل أن تعرض في اليومين الآخرين ريبورتاجات مصورة من داخل ما وصُفت بأنفاقٍ عملاقة.
ليست المسألة في المحاججة بنصر، نعرف أن بإمكانك القول إن مدينة ممسوحة عن بكرة أبيها لا يمكن أن تُحْسَب في عداد المنتصرين، وأن الأثمان الباهظة، وما آلت إليه دول الربيع العربي، قد تساعدك في القول «ليتها لم تكن»
تصمد غزة أمام أعتى قوة وأكثرها بطشاً، ليست إسرائيل وحدها، فوراءها الولايات المتحدة والغرب برمته. تصمد لأكثر من سبعين يوماً، واسمح لنا أن نتحدث عن الصمود على الأقل، لا النصر، ولا تقل لي من جديد انظر أرقام الضحايا المدنيين، فهذه مسؤولية إسرائيل والولايات المتحدة والعالم برمته، ولا تقل لي إن محور الممانعة، وبعض دوله على نفس القدر من التوحش والإجرام، هو المستفيد الأول، فليس هذا السؤال صالحاً تماماً أيضاً، فعلى جانبي كل حرب هناك دائماً مستفيدون لا على البال ولا على الخاطر. فبحسبة السياسة، قل لي ما هي اللحظة الأنسب دولياً ليقلب الفلسطينيون الطاولة على اتفاقيات أبراهام، التي كانت على وشك إحكام آخر حلقاتها، ليس من دون الفلسطينيين وحسب، بل وعلى حسابهم، أن يقلبوا الطاولة على أوسلو المخادع، الذي قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وملأ الضفة المحتلة بأكثر من 650 ألف مستوطن، وصولاً إلى تسلّم بن غفير وسموتريتش سدّة الحكم، وبدء تنفيذ خطة الأخير المسماة «خطة الحسم»، التي يتوقع أن تفضي إلى ضم الضفة الغربية، وطرد ما تبقى من الفلسطينيين، إلّا مَن تَحوّلَ إلى خروف ممتثل يرعى الحشائش، كما في حكاية «النمور في اليوم العاشر».
قبل السياسة وحساباتها الإقليمية والدولية، هناك شعب بدأت حكايته منذ 75 عاماً، ذاق كل فنون التنكيل والتهجير والعذاب والكذب الدولي والعربي، يقف بكل عذاباته وشروط عيشه البائس ليرفض تقليد مواء القطط أو أصوات الحمير. مع كل التبجيل لهشاشة القطط وعناد الحمير الضروريين كل في موقعه.
لو أراد شعب الجبارين أن يرفع الراية البيضاء لفعلها منذ أكثر من 70 عاماً. ليس هناك اليوم أكثر وضوحاً من استحالة انطفائه وذوبانه. إن كان هناك من نصر، فيكفي أن هذه الحقيقة، التي كانت على وشك الانطفاء والنسيان، باتت اليوم ساطعة. وأياً كان ما ستفضي إليه الحرب الأطول في تاريخ إسرائيل لن تتغير هذه الحقيقة. هذا الإيمان يكبر ويترسخ أكثر من أي وقت مضى.