طوفان الأقصى: الدرس العربي
مر إلى الآن أكثر من سبعين يوما، والحرب المستعرة في غزة والضفة الغربية تكشف بالملموس أن الإبادة الجماعية قائمة، والتطهير العرقي قاعدة هذه الحرب الصهيونية. لقد توهم الاحتلال بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقد حدد أهدافا استئصالية ضد الوجود الفلسطيني، أنه في نزهة لبضعة أيام، يفرج خلالها عن المحتجزين، ويقضي على حركة حماس، ومن ثمة على أي تهديد يأتيه من غزة. كانت الأكاذيب والافتراءات مصاحبة لهذه الدعوى. وقد أتت أكلها، في بداية عهدها، بدعم أمريكي وغربي فأتاحت لها فرصة جميلة للتدمير والتهجير والتقتيل الذي لا يمكن وصفه. وكان سؤال: هل تدين حماس أم لا؟ ركيزة أي تصنيف لمن هو مع الإرهاب أو ضده.
ومع الزمن بدأ الحلم الصهيوني في التلاشي، ففقد بريقه، وتعالت الأصوات الحرة في العالم أجمع، بما فيها إسرائيل تطالب بوقف الحرب، وإغاثة المواطنين الفلسطينيين، الذين مورست عليهم أقسى أشكال الحرب والتجويع بعدما تبينت حقيقة هذه الحرب الهمجية، التي لم تستثن شيئا تدب فيه الحياة، بل حتى المصابين والجرحى توبعوا في المشافي للإجهاز عليهم. وبدأ التمايز واضحا بين الواقع والخيال، وقد تبخرت كل الأهداف التي سطرتها الحكومة الإسرائيلية، فكان الانقسام على هذه الحرب القذرة واضحا، وكلما تقدم زمن الحرب تكشفت حقيقة الصهيونية التي ظلت تخفيها تحت شعارات الواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وأن المقاومين الفلسطينيين في المقابل إرهابيون.
كان ادعاء كون حماس بادئة بالحرب حجة مقنعة لمن ظلوا يتصورون أن القضية انتهت، وأن السابع من أكتوبر جاء لإنهاء «مصالحة»، مع العدو، وخرقا لـ»سلام» كانت تتوهمه إسرائيل، متناسين كل أشكال العسف التي ظلت تمارسها الصهيونية ومستوطنوها ضد الفلسطينيين، من خلال الحصار المفروض عليهم، ومن الاعتقالات، وتدنيس المسجد الأقصى، مع حراسة المستوطنين الذين يقتحمون المسجد، وكل أشكال العسف، خصوصا قبل طوفان الأقصى. لقد كشفت هذه الحرب أن المقصود ليس حماس، ولا غزة، ولكن الضفة الغربية أيضا التي عانت طيلة هذه المدة من الغطرسة الصهيونية، وكان تسليح المستوطنين، واقتحام البيوت، وتدميرها، وممارسة الاعتقالات بالجملة دليلا على أن طوفان الأقصى كان فقط النقطة التي أفاضت الكأس، وعرّى ما ظلت تستره الصهيونية، وهي تحاول دق آخر مسمار في نعش القضية الفلسطينية، بفتحها باب التطبيع لإنهاء حلم فلسطيني في أن يكون له وطن. ولعل آخر تصريح ظل منكتما طيلة عقود يتمثل في ما عبر عنه نتنياهو، وهو يحاول تبرير عدم تبعيته لأمريكا، بعدما اشتد الخناق عليها، وصارت معزولة عالميا، وهي تتحدث عن الدولتين، بزعمه ألا وجود سوى لدولة واحدة، هذا هو الواقع والحلم الذي يلخص الأسطورة الصهيونية.
سقطت ورقة التوت التي عرت سوأة الصهيونية: انقسام داخلي، احتجاج عائلات المحتجزين، إحساس المواطن الإسرائيلي العادي، وليس المستوطن الإرهابي، بأن هذه الحرب ليست فقط ضد الفلسطينيين، بل حتى ضد المواطنين، بداية هجرات عكسية خارج إسرائيل، بداية تشكل وعي جديد لدى بعض الإسرائيليين الذين غسلت الآلة الإعلامية أدمغتهم بدعايتها السمجة والمزيفة، عودة المعارضة بقوة، وهي تدين تطرف اليمين الصهيوني، وتطالب باستقالته. هذا ما جنته براقش نتنياهو على إسرائيل. أما عالميا فقد تعالت الأصوات الأبية، وذات البعد الإنساني الحقيقي منددة بالفاشية الصهيونية، مستنكرة كل أشكال الظلم والكراهية التي مارسها الجيش الإسرائيلي الذي أوصله عماه الأيديولوجي إلى حد قتل جنوده، وهم يحملون الراية البيضاء، ويتكلمون العبرية، مبرزين استسلامهم. ومع ذلك فقد تعرضوا للتقتيل بالطريقة نفسها التي عومل بها الأبرياء الفلسطينيون، نساء وأطفالا وشيوخا ومصابين. مقابل ذلك نجد أن القضية الفلسطينية فرضت وجودها عالميا، واستعادت موقعها، حركة تحرير لوطن مغتصب، وأبانت للجميع أن هناك شعبا يتعرض للإبادة، وأن له الحق في الوجود. كما أبرز الشعب الفلسطيني في غزة أن له قضية عادلة، ولذلك كانت المقاومة والشعب في مستوى التضحيات الجسيمة المقدمة بروح ومعنويات عالية، يطبعها الأمل، وعدم الاستسلام، وبروح التضامن والشهامة في مواجهة الدمار، والجوع، والحصار. ولا يمكن أن يتأتى هذا إلا لمن يؤمن بقضيته، أما مرتزقة الحرب الإسرائيلية، وجيوشها فأبرزوا خلال الاصطدامات أنهم جبناء ومتوترون.
أما على الصعيد العربي فتبين أن الشعوب العربية والإسلامية، رغم ما تعرضت له القضية الفلسطينية من تهميش خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أنها ما تزال تحمل هم القضية، وتحلم بحلها بما يخدم القضية الفلسطينية، لأنها ترى أن ما يعانيه الشعب الفلسطيني تجسيد لمعاناة الشعوب العربية نفسها، وهي ترزح تحت الهيمنة الأمريكية والغربية وسياساتها في المنطقة، التي تعمل على استغلال خيراتها، وإبقائها تحت هيمنتها. أما المثقفون وأشباه المثقفين الذين ظلوا يرون في الديمقراطية الغربية النموذج، فقد بدا لهم الغرب الاستعماري الجديد على حقيقته، وأن من يطبلون له بالهجوم على اللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، وعلى الإسلام أنهم في خدمة الصهيونية، التي لم تدخر جهدا في الكشف عنهم، بدعوتها إلى الانتصار لها والدفاع عنها مقابل ما كانت تغدقه عليهم من أموال.
كشف الطوفان حقيقة الصهيونية، فهل هناك من يمكنه الثقة فيها، ويتعامل معها؟ إنه الدرس العربي.