في ذكرى رحيله: شعر السياب والرغبة في الانقطاع عنه وتجاوزه
الريادة في تحديث الشعر العربي المعاصر هي واحدة، منسوبة لحركة الشعر الحر، ومؤرخة بعام 1947، ومعززة بمانفستو نازك الملائكة في عام 1949 والمتمثل بمقدمة (شظايا ورماد) وفيها دعت إلى الشعر الحر، وأكدت أن الشعر مثل الحياة (ولما لم يكن للحياة قاعدة، فينبغي إذن أن لا نضع للشعر قواعد). وبسبب قوة شعر التفعيلة، نظر بعض النقاد إلى هذا الشعر على أنه جديد وميزوا السياب على غيره، فهو كما يقول إبراهيم السامرائي (يملك من أصالته العربية غير ما يملك أصحابه، وأنت تقف في شعره على معالم تشير إلى وقوفه الطويل على الأدب القديم يأخذ منه رموزا، بل ألفاظا).
وعلى الرغم من هذه الأصالة، فإن رغبة كبيرة تملكت الشعراء الذين أتوا من بعد السياب في أن ينقطعوا عنه. وبعض منهم أعلن عن هذا الانقطاع جهرا. وغدت هذه الرغبة بدءا من منتصف ستينيات القرن العشرين ملحة عند بعض الشعراء، الذين حلموا أن يكونوا أصحاب تحديث ابتكاري في القصيدة العربية مع رغبة أكثر إلحاحا في أن يكونوا جيلا يشار إليه بالبنان، كما يشار الى جيل الرواد، الأمر الذي تسبب في بروز ظاهرة مفتعلة وجديدة في العراق هي ظاهرة التجييل العقدي (أي بزوغ جيل شعري كل عشر سنوات). وفي مقدمة أولئك الشعراء الذين جاهروا بالقطيعة مع السياب الشاعر سامي مهدي، الذي عدًّ ما قبل عام 1964 غير مهم واعتبره مجرد بدايات بسيطة لم تتوضح فيها شخصية الجيل بعد، وقارن بين قصائد بدر شاكر السياب وقصائد الشعراء اللاحقين له وهم (مالك المطلبي وخالد علي مصطفى وعلي جعفر العلاق) فوجد أن الفضل لصالح الأخيرين، فقصيدة (التيه) لمالك المطلبي هي في رأيه أفضل من قصيدة (قافلة الضياع) للسياب بل إنها تذهب أبعد مما تذهب إليه قصيدة (المسيح بعد الصلب) لأنها (تنغلق على ذاتها ولا تتراسل مع الخارج، إلا لترتد بعكس قصيدة مالك التي تظل علاقاتها مفتوحة على الخارج، فتستقبل عدة قراءات وعدة تأويلات). وما انتهى إليه الشاعر سامي مهدي هو أن السياب ليس أول شاعر عربي معاصر بدأ استعمال الأساطير، لأن الشعراء الرومانسيين العرب سبقوه، ولأن نازك الملائكة سبقت السياب في استعمال الأسطورة، التي بدت عنده نابية وما من ضرورة لها، بل هي (مودة) وادعاء وإعادة كنائية، مفضلاً عليه الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي رآه حقق إنجازات مهمة في صنع شخصيات ومدن أسطورية.
ورصد الناقد عبد الجبار عباس وهو ينتقد طراد الكبيسي، شاعرا آخر كان متحمسا للقطيعة مع جيل الرواد، وتحديدا السياب، هو فاضل العزاوي الذي رأى لغة السياب بدائية مباشرة ووعيه سهلا ذا بعد واحد، يخشى المغامرة لاكتشاف العلاقات السرية، وأنه ليس إلا شاعرا اجتماعيا إصلاحيا يستبكينا على مومس خدعها شخص. ورد الناقد عبد الجبار عباس بالقول: (إن الأمر يبدو مسليا حقا لا لأن المومس العمياء كانت تلخيصا مكثفا لمأساة عراق الخمسينيات، ولا لأن السياب رغم تسلط القضية السياسية والاجتماعية على شعره.. كان دائب البحث عن خلاص من تناقضات العالم.. بل لأن العزاوي عاجز في معظم ما كتب عن تحقيق ما يطالب به السياب، فهو يلزم بدرا بما لا يلزم به نفسه، لذا جاءت معظم قصائده تشكو طغيان السرد بضمير المتكلم المأزوم واصطناع الطرافة والمعنى بسبب إلحاح الموقف الثابت.. فلا العزاوي أنصف السياب في إطار مرحلته التاريخية ولا هو استطاع أن يتجاوزه بحق).
ومما أكده الناقد عباس أن إنجازات جيل الرواد كانت مغايرة أفقا ونظرة لشعر من سبقهم وعاصرهم من شعراء الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية العربية، وضرب مثلا على ذلك بالامتداد الذي حققه بعد السياب (شعراء عرب كأمل دنقل وصلاح عبد الصبور ومحمد معطي حجازي وهو تجديد لا يقل عما حققه شعراء الثلاثينيات الإنكليز من بعد اليوت. ومن يقل بالانقطاع فكأنه يلغي الجذور التي دونها لا يقوم الشيء ولا يثبت. وما طرحه داماسو الونسو حول الشعر المقتلع الجذور، جعل عزيز السيد جاسم يتساءل باستنكار: هل أن هناك شعرا مقتلع الجذور تماما.. الشعر شأنه شأن أي شيء في العالم لا بد أن يمتلك جذرا).
وممن امتلكوا هاجس الرغبة في الانقطاع عن القصيدة السيابية الشاعر عبد الكريم كاصد، الذي هاجم بدرا بسبب تباين موقفه السياسي وموقف مجلة «الآداب» اللبنانية منه فقال: (تفتتح مجلة الآداب عرسها بقصيدة الشاعر المنهك جسديا المحتضر بدر شاكر السياب، الذي لم يشفع له ولاؤه الجديد للانقلابيين وهجاؤه لعبد الكريم قاسم الذي أمده بثمن العلاج ليشفى في مستشفيات بيروت وباريس ولندن من إيذائه وفصله من وظيفته.. إذ شهّروا به في مجلة الآداب نفسها العدد السابع 1963 على لسان شاعرهم علي الحلي، الذي لم يترك موبقة إلا وألصقها بالسياب).
ومن الشعراء الذين حاولوا مداراة القطيعة بأمر الابتكار، الشاعر خالد علي مصطفى الذي اهتم بمقارنة من سماهم شعراء البيان بالسياب، فنفى أن يكون لتجربة حسب الشيخ جعفر في كتابة القصيدة المدورة تميز ما، فهي لا تذهب بعيدا عن أصولها المستقاة أساسا من السياب، وأن سامي مهدي من أصحاب الوعي المزدوج حاله حال زملائه من شعراء جيل ما بعد السياب، مؤكدا أن في شعر فوزي كريم عثرات طائر يتشبه بالسياب، وفي شعر فاضل العزاوي وقوفا على حافة السريالية، وأخذ عليه تضخم الذات والنرجسية العالية التي جعلته يقول ما يشاء (أما زملاؤه الشعراء الآخرون.. فليسوا إلا أشباحا يطوفون في ظلمة دامسة. لقد أبعدهم فاضل عن الروح الحية ونصَّب نفسه قطبا يدور حواليه المريدون. خلاصة القول إن الروح الحية لا تصلح أن تكون وثيقة تضاف إلى وثائق دراسة ما بعد السياب، إلا من حيث إنها تعبير عن فاضل نفسه قابلة للمناقشة).
وما بين القبلية والبعدية تبقى قصائد بدر شاكر السياب نقطة تمرحل مفصلية في تحديث الشعرية العربية المعاصرة، وستستمر الاستجابة لفاعلية هذا التحديث؛ سواء أكانت هذه الاستجابة تقاطعا أم كانت تواصلا.