كتابات خزعل الماجدي بين النقد العلمي والهجاء التكفيري
علاء اللامي*
قبل أربع سنوات تقريباً، نشرتُ مقالة مناسباتية استعرضت فيها سريعاً كتاباً جديداً للباحث خزعل الماجدي حمل عنواناً هو “أنبياء سومريون ـــ كيف تحول عشرة ملوك سومريين إلى أنبياء توراتيين؟”رابط التحميل 1. وقد أطريتُ الكتابَ وقيَّمتُهُ إيجابياً بشكل لا يخلو من تسرع وابتسار اعتماداً على ثقة مفترضة بما كتبه المؤلف وعرضه من أفكار وأرفقه من مقتبسات وتوثيقات. وقبل أيام قليلة قرأتُ كتاباً لمؤلف تونسي متخصص هو الآخر في تأريخ الأديان المقارن، وذي توجهات إسلامية سلفية كما يبدو، هو سامي عامري وعنوان كتابه “سرقات وأباطيل: قراءة نقدية لكتاب خزعل الماجدي «أنبياء سومريون» المشكك في الأنبياء والآباء”. والكتاب متوفر بنسخة رقمية مجانية على الانترنت/ رابط التحميل 2. وبعد قراءتي لهذا الكتاب يهمني أن أسجل الملاحظات التالية كنوع من الشهادة الشخصية:
1-أسجل إدانتي ورفضي للغة السجالية المزدرية والعنيفة وذات النزعة التكفيرية الواضحة ضد مؤلف الكتاب المنقود السيد الماجدي، التي اعتمدها السيد عامري وآخرون يشاركونه النزعة ذاتها – منهم أحد نجوم الميديا السلفية على منصة “يوتيوب” هو هيثم طلعت – في ما يشبه الحملة التي أخرجت النقاش من سياقه المنهجي النقدي المطلوب إلى سياق أيديولوجي تكفيري يضج بالتحريض والتشنيع والمبالغات التي طغت على الصوى والفقرات المفيدة والاعتراضات المبررة والموثقة وهي كثيرة في متن الكتاب وسأدرج بعضا منها في نهاية هذه المقالة على سبيل التوثيق.
2-بعد الاطلاع على العديد من المعلومات التخصصية الموثقة التي وردت في كتاب عامري، وخصوصا ما تعلق منها بالترجمات عن اللغات القديمة كالعبرية التي لا أجيدها، ويبدو أن الماجدي لا يجيدها أيضا، ولكنه اعتمد على ترجماتها إلى اللغات الأوروبية غير الدقيقة، وبطريقة توثيق المقتبسات والسوابق التأليفية في هذا الموضوع في الماضي والتي أهملها الماجدي فلم يُشر إليها أو يتوقف عندها تأليفياً بل وزعم أن فكرة الكتاب فكرته الشخصية لم يسبقه باحث آخر إليها، أسجل هنا أيضاً أسفي لأنني تسرعتُ في إطلاق تقييمات وأحكام ظهر أنها مبالَغ في إيجابيتها على كتاب الماجدي، وسوف أحرص مستقبلاً على الاستفادة من هذه التجربة فلا أعول على ثقة مفترضة بل على النصوص وتوثيقاتها ومصادرها وسياقها التاريخي، وهل سبق وأن طرحها كُتّاب آخرون من قبل أم لا!
وبناء على ما سبق أرى أن من المفيد التوقف نقدياً مجدداً عند كتاب الماجدي من قبل أهل الاختصاص في ضوء ما أثير حوله من ملاحظات وتحفظات ونقود ذات طابع علمي بعد استبعاد التعبيرات ذات الطابع السجالي والنزعة التكفيرية الهاجية كتلك الواردة في كتاب عامري، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
*يقول عامري في مقدمة كتابه إن “الرسالة من هذا الكتاب هي اتهام التوراة اليهودية والقرآن باقتباس خرافات الأولين. ص 24”. ويضف عامري: “ومن يقرأ كتب خزعل – كذا- لن يفوته أنه من الممكن اختصار حالها في عبارتين: تلخيص ماهو متاح في المكتبة العربية وبعض الترجمات إلى لغة الضاد – دون إحالة في الغالب إلى لغة الضاد – مع شطحات معرفية في قراءة التأريخ. والملخصات لا تصنع عالِما. ويمثل ضعف إطلاع خزعل على المكتبة الغربية، وغفلته عن آخر الإصدارات وأبواب السجال الدقيقة بين المحققين، من أعظم أسباب هامشية حضوره العلمي على الساحة – ص 25”.
نلاحظ هنا إصرار عامري على تسميه الباحث الماجدي باسمه الأول (خزعل) مرارا وتكرارا، بما يؤكد أنه يتقصد ذلك، خلافا للياقات السجالية السائدة بين الكتاب. وبما يعبر عنه هذا الإصرار من نزعة ازدراء وتحامل وعدم احترام تصل إلى درجة قلة الأدب، وخصوصاً حين يصف الطرف الآخر وزميله في الاختصاص والشهادة العلمية بأنه “حرامي غسيل” على ص 31، ولا ندري كيف سيشعر د. عامري لو دأبنا على تسميته “سامي” في عبارات من قبيل “قال سامي، ويعتقد سامي، وسامي هذا مجرد حرامي غسيل…إلخ”! واللافت أن محرضاً سلفياً آخر هو المصري هيثم طلعت يشاركه هذا الأسلوب الممجوج في السجال بل إنَّ هذا الأخير فاقه في الفظاظة حين لجأ عدة مرات في فيديواته إلى تشويه صوت الماجدي وصورته بشكل كاريكاتيري شديد الابتذال ولا علاقة له بأي منهج في النقد والدحض والتفنيد.
*أما على الصعيد المنهج النقدي فنلاحظ أن عامري يضع السجال الفكري مع كتاب الماجدي في سياق آخر غير سياقه الحقيقي ويعطيه هدفاً آخر غير هدفه المعلن والمتوخى. فهو ينقله إلى سياق الصراع بين الإيمان الديني ممثلا في التوراة والقرآن والناطق باسم هذا الإيمان وهو السيد عامري نفسه، والكفر والإلحاد ممثلا بالكُتاب والكتب التي تزعم الأخذ بالمنهج العلمي الحديث وأدواته وأساليبه ومنها كتاب الماجدي. وعامري بهذا يوحد بين التوراة والقرآن مع ما بينهما من اختلاف واتهامات قرآنية لليهود بتحريف التوراة بدليل نص الآية قرآنية (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ). معتبراً أن الكتب الدينية المقدسة كتباً علمية تأريخية أو ينبغي على الناس كافة أن تعتبرها هكذا، فلا يكتفي بأن يؤمن هو بذلك بل يريد إجبار الناس ومنهم العلماء والباحثون في عصرنا على الأخذ بهذا الاعتبار والتخلي عن العلوم الحديثة ومناهجها، بل هو يُخْرِجُ مخالِفَهُ في هذه القضية الفكرية من الملة والدين فلا يعتبره مسلما، وهو بهذا ينكر عمليا حتى التفريق الوارد في القرآن بين المسلم المؤمن والمسلم غير المؤمن، فهو يكتب مثلا أن خزعل الماجدي (لا يجد حرجا في أن يقول إنه من “المسلمين”). بكلمات أخرى فهذا النوع من “النقد” ينقل السجال من ميدان البحث العلمي إلى الصراع الديني الإلحادي بما يحمله من تكفير يؤدي إلى إهدار دم المخالف وتطليقه من زوجته رغم أنفيهما كما حدث مع الباحث الراحل نصر حامد أبو زيد وفراره من بلده إلى بلد أجنبي حتى وفاته، وما إلى ذلك من تداعيات الخطاب التكفيري الداعشي المعاصر.
*إضافة إلى ما سبق فإن عامري لا يكتفي في استنباط الأدلة على “كفر وإلحاد” الماجدي من كتابه المنقود بل هو يلجأ إلى الاستعانة بأطراف أخرى لا علاقة للمؤلف بها، فيقدم لقارئه حزمة من انطباعات وتعليقات عدد من متابعي الماجدي على صفحته على مواقع التواصل يعبرون عن قناعاتهم وآرائهم وإعجابهم بكتاباته. وهي تعليقات بسيطة إلى درجة السذاجة أحياناً من أناس ليسوا غالبا أهل اختصاص أو ثقافة عامة جيدة بل مجرد قراء بسطاء، يُعجَبون ويُدْهَشون بما يقرأون لأول مرة، فما مسؤولية الماجدي عن ذلك ليحكم عليه عامري بالقول إنه “كاتب صنع منه الملاحدة و”اللادينيون” العرب أيقونة للمعرفة/ ص 26″؟ أعتقد أن هذا الأسلوب لا يليق بباحث يحمل شهادة أكاديمية رفيعة كالدكتوراة في مقارنة الأديان بحق زميل له يحمل الشهادة ذاتها في تخصص قريب من تخصصه، وبغيتهما المفترضة مقاربة الحقيقة، بل بشتامٍ وهجّاء يريد إرواء تعطشه لمحق الخصم أو الزميل المنقود وإقصائه من المشهد الثقافي والعلمي، وهو بهذا ينأى عن تقاليد الكتابات الإسلامية النقدية العميقة ذات اللغة الدمثة والرصينة والتي عرفناها عند باحثين إسلاميين محترمين من أمثال فهمي هويدي وعبد الوهاب المسيري وآخرين، لا يَفْجُرون عند الخلاف، وينصفون المخالِفَ حيث وجب الإنصاف فلا يقدحون في أخلاقه وكرامته الشخصية.
*أعتقد أن الخاسر الأكبر من هذه الأساليب العدوانية في كتابة نصوص نقدية هجائية إلغائية هو القارئ أولا، ثم يليه كاتب النص النقدي نفسه، لأنه يُغْرِقُ حتى الحجج الرصينة والمعلومات والتوثيقات العلمية المفيدة التي يأتي بها في بحر غضبه وكراهيته الأيديولوجية للطرف الآخر، بدلا من أن يُرسيَ قواعد حوار مثرٍ لقناعات كلا الطرفين ويمكن أن يؤدي إلى تركيب وبناء قناعات أكثر قرباً من الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يحتكر حق النطق باسمها في عصرنا.
*سأكتفي في هذه المقالة بهذه التعليقات الخفيفة والسريعة انطلاقاً من كوني إعلامياً يهتم بالشأن التأريخي والآثاري والإناسي واللغوي القديم ولستُ باحثاً متخصصاً في أي منها كما كررت في أكثر من مناسبة. وأتفق مع الناقد على أن من شبه المستحيل أن يكون باحثٌ ما متخصصاً في هذه العلوم الدقيقة جميعها أو أغلبها في وقت واحد، وهدفي من هذه المداخلة هو تسجيل شهادتي حول الموضوع أولا، وتسجيل تحفظي على أحكامي وتقييماتي الشخصية المتسرعة الواردة في مقالتي التعريفية بالكتاب المنقود ثانياً، ومعبرا في الوقت نفسه عن احترامي لحق السيد خزعل الماجدي الذي لا جدل فيه في التعبير عن آرائه وقناعاته البحثية، وأيضاً بحق مخالفيه في نقد ما كتبه ويكتبه نقداً منهجياً علمياً ينأى عن التجريح الشخصي ذي النزعة التكفيرية الخطرة.
أخيراً، أعتقد أن من الجدير بالتنويه والإشادة موقف الماجدي المناهض للتطبيع مع الكيان الصهيوني ورفضه لما سُمِّيَ بالمشروع الإبراهيمي أو “الاتفاقات الإبراهيمية”، باعتبارها – كما قال هو حرفيا – في ندوة أقيمت في أستراليا على أغلب الظن وبُثَّ تسجيها على منصة يوتيوب – “جزءاً من مشروع استعماري للمنطقة ويجب أن تقاومه كل شعوب المنطقة وتقاوم كافة أشكال التطبيع”، وهو، بموقفه هذا، من القلائل بين الليبراليين العلمانيين القصويين – بل وحتى بعض الإسلاميين المتفرجين والمنشغلين بتكفير زملائهم الباحثين المخالفين لهم- الذي اتخذ هذا الموقف الذي يستحق الإشادة والتنويه. صحيح أن الماجدي لم يكتب شيئاً عن هذه المواضيع في صفحته على مواقع التواصل على حد علمي ومتابعتي المحدودة، ولكني سمعت رأيه هذا وشاهدته بالصوت والصورة في الفيديو المذكور لندوته تلك.
*هوامش: من ملاحظات سامي عامري التوثيقية الجديرة بالتمعن، على افتراض صحتها ودقتها الاقتباسية، إذْ لم يعد من السهل الوثوق بما يُنشر ويُقتبس، والتي جاء بها لتأكيد أن فكرة “المطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين” لم تكن أصلاً فكرة خزعل الماجدي واكتشافه الشخصي، يذكر عامري في مقدمة كتابه “أن هناك كتاباً وباحثين كُثر تناولوا موضوع المقارنة و”المطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين تأييداً أو رفضاً قبل أن يولد الماجدي” وقد ذكر منهم:
*جورج بارتون الذي ذكر في مقالة نشرها سنة 1915 “تبنى بعض النقاد لعدد من السنوات أن قائمة ملوك ما قبل الطوفان تمثل ربما أسماء آباء الفصل الخامس من سفر التكوين بشكل مختلف”. فرد آباء التوراة إلى حضارة بلاد الرافدين أقدم من نشر بارتون مقالته قبل أكثر من قرن من اليوم!
*توماس هرتمان قد أشار في مقدمة مقالته ” خواطر حول قائمة الملوك السومريين وسفر التكوين 5 و18″ التي نشرها سنة 1972 إلى أن السنوات القريبة من نشره لمقالته قد شهدت ازدهار الدراسات المتعلقة بمقارنة الفصول الأولى من سفر التكوين بالحضارات القديمة وخاصة حضارة بلاد الرافدين وأضاف أن العمل في الفصلين 5 و11 لا يزال العمل فيهما ضعيفا”.
*وكتب الناقد وليم شيا بعد خمس سنوات على مقالة هرتمان “بُذِلَت محاولات لمطابقة أسماء هؤلاء الملوك مع تلك الموجودة في نسب شيث في الفصل الخامس من سفر التكوين لكن مثل لتلك المحاولات لم تلق نجاحا معتبرا”.
ويضف عامري أسماء كل من الباحثين والنقاد والمؤرخين الذين كتبوا عن موضوع المقارنة والمطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين تأييدا أو رفضا:
*جون والتون في كتابه “الأدبيات الإسرائيلية القديمة وسياقها الثقافي”.
*جوردن وينهام في كتابه “تفسير سفر التكوين”.
*رونالد يونجبلاد في كتابه “سفر التكوين تعليق مدخلي”.
*إبراهام مالامات في كتابه “قوائم الملوك في العصر البابلي وأنساب الكتاب المقدس”.
*كنيث كتشن في كتابه “الكتاب المقدس وعالمه…”.
*ج. ف. هازل في كتابه “سلاسل الأنساب في تكوين 5 و11 وخلفيتها البابلية المزعومة”.
*أما اعتراضات عامري وتصويباته للأخطاء في الترجمات عن اللغة العبرية وغيرها واقتباسات الماجدي عن مراجع أخرى فهي كثيرة ولكنها مصوغة بلغة فظة واستفزازية ويمكن للقارئ الاطلاع عليها في كتابه.
وبهذا، آمل أن أكون قد سجلت شهادتي أمام القراء ووضحت تحفظاتي سواء على ما ورد من تقييمات خاطئة ومبالغات في مقالتي التي نشرتها قبل أربع سنوات، أو على الكتابين الناقد والمنقود موضوعيِّ الحديث.
*رابط تحميل كتاب خزعل الماجدي: “أنبياء سومريون ـــ كيف تحول عشرة ملوك سومريين إلى أنبياء توراتيين؟”
*رابط تحميل نسخة من كتاب سامي عامري: “سرقات وأباطيل: قراءة نقدية لكتاب خزعل الماجدي «أنبياء سومريون» المشكك في الأنبياء والآباء”