الإساءة في قصائد بدر شاكر السياب
نبيل عبد الأمير الربيعي
يقف الشاعر بدر شاكر السياب في مقدمة مجددي القصيدة العربية الحديثة، وهو المثقف الذي كان جزءاً من نسيج الثقافة العراقية، وكان من الأشخاص القريبين من السياب الكاتب محمود العبطة، وهو أول من كتب عنه بكتاب تحت عنوان (بدر شاكر السياب والحركة الشعرية الجديدة في العراق) الصادر عام 1965 عن مطبعة المعارف في بغداد. ويقول عن السياب في ص16-17 من كتابه: (في السنين الأخيرة نشر مقالات ظالمة وقصائد تزلف في صحف بغداد، وكما توظف محرراً في مجلة حكومية في البصرة، وسافر إلى روما وألقى محاضرة عن الشعر في العراق، أنزلته من عيون الناس، واتصل ونشر في مجلة حوار المشبوهة، إن هذه المواقف نقاط سوداء في صفحته).
ثم كتب السياب مقالاته (كنت شيوعياً)، لينشر من خلالها تجربته مع الحزب الشيوعي العراقي ويسمي شخصاً كان مسؤوله (الرفيق رائد)، والكتاب عبارة عن مقالات نشرها في صحيفة الحرية عام 1959م، تحتوي على أربعين مقالة على شكل حلقات أسبوعية، وقد صَبّ جام غضبه على كل شيوعي في العالم وكل حزب يحمل هذا الاسم وأفكاره، ففجر في خصومته معهم لينسب صورة قاتمة وبشعة لهذا الحزب آنذاك في طريقته وأسلوبه ومعاملاته، حيث إن عين سخطه ابداها، وجعل كل مساوئ الدنيا في هذا الحزب وأفراده، ثم تحدث عن اتصاله بالأحزاب الشيوعية الأخرى خارج العراق كحزب تودة الشيوعي الإيراني، فعندما اختلف مع رفاق الأمس قلب ظهر المِجنّ لهم ولم يسعفه الوقت حتى كان يحلم بانهياره انهياراً تامّاً.
مع كل ما ذكرناه اعلاه إلا أنه استقبل الشهرة من خلال قصائده الأولى، ومن ثم ظهرت تناقضاته في حدتهّا، ففي أيامه الأخير قد أساء كثيراً، وخاصة بعد انقلاب 8 شباط 1963م، التي كتبها وهو بالمستشفى في لندن ومنها:
لولاه ما عاد الشيوعي حاكماً**********كما شاء أو كان الشيوعي ينحر
لك الحمد إذ رويت بالثأر أرضنا******* فسرنا على الدرب الذي كاد يطمر
وقصيدته إلى العراق الثائر:
والله عاد إلى الجوامع بعد أن طلع النهار
طلع النهار فلا غروب
يا حفصة ابتسمي فثغرك زهرة بين السهوب
أخذت من العملاء ثأرك كفّ شعبي حين ثار
فهو إلى سقر عدو الشعب فانطلقت قلوب
كانت تخاف فلا تحن إلى أخ عبر الحدود.
فكان يؤكد على الثأر من رفاق الأمس بعد انقلاب شباط 1963م، وقادة الانقلاب سائرون نحو ذبح حلفاء الأمس، وينادي السياب باسم حفصة، وهي اشارة واضحة إلى الطائفية والعروبية بعينها، للثأر من الزعيم. فيقدم السياب افراط في الاساءة المبالغ بها، فكان عنيفاً متناقضاَ مقصوداً وواعياً، لذا تجد كلمة الثأر والتشفي والتلويح بالانتقام مفردات ألفهما سياق القصيدة، فضلاً عن التشهير برفاق الأمس.
يذكر السياب في كتابه (كنت شيوعياً-ص27) قائلاً: (إننا نحمّل رجال العهد البائد مسؤولية تلك الجريمة التي ارتكبوها بحق الشاعر معروف الرصافي حين حاربوه في رزقه، لأنه كان ضد الملك والبلاط، وها أنذا اليوم شاعراً لا يقل عن الرصافي شاعرية، ووطنياً مخلصاً وديمقراطياً صميماً أُحارب في رزقي، في عهد الزعيم الفذ عبد الكريم قاسم، لا لأني ضد الجمهورية بل لمجرد أنني أحب عبد الكريم أكثر مما أحب خروشوف أو ماركس أو لينين، وأحب العراق أكثر مما أحب الاتحاد السوفيتي، وأحب الشعب العربي العظيم أكثر مما أحب الشعب السوفيتي أو سواه من الشعوب). مع هذا أجد السياب بوضعه المادي ومرضه، ووضع العراق في صراعات القوميين والشيوعيين، لما كان اختلافه مع رفاق الأمس. وفعلاً (بعد مراوغة وإلحاح اقتنع بنصيحة أخيه أن يقابل أحد المسؤولين في الحزب، لكن هذه المقابلة لم تثمر بإعادته للوظيفة). كنت شيوعياً، ص66.
كانت أحد اسباب ثائرة التوتر بين السياب والحزب الشيوعي العراقي حينما طبع الحزب الشيوعي ديوانين للبياتي في مجلة الحزب آنذاك (أباريق مهمشة، أشعار في المنفى)، وتعتذر عن طباعة كراس لقصيدته (المومس العمياء) في وقت سابق، هو ما ذكره السياب في كتابه (كنت شيوعياً ص122، 136-137) قائلاً: (يذكر البياتي وقد يكون لصعود نجم الأخير أثر في التوتر، وتبني الشيوعيين الاحتفاء به هذا في غياب السياب، وسيتكرر ذكر البياتي حتى ليبدو جزءاً مهماً من معركته، أو هو لصيق باحتفائهم به). ويعلق في ص20 من كتابه ليقلل من شاعرية البياتي قائلاً: (ولاحظت آنذاك أن بعض المتشاعرين التافهين من أمثال عبد الوهاب البياتي وزمرته قد برزوا بشكل عجيب آنذاك نظراً لخلو الميدان لهم). من خلال كلامه اعلاه أجد أن السياب يبدو ساذجاً، وكأن حكر الثقافة والشعر عليه دون سواه. فبدأت معركة السياب الحقيقية مع الشيوعيين منذ ذلك الحين، فأرخها في مقالاته في صحيفة الحرية، فيذكر في كتابه كنت شيوعياً ص25: (ثم روج الشيوعيون عني بأنني بعثي، وروج آخرون إشاعة تزعم أنني لست قومياً عربياً وإنما قومي سوري). فكانت صحة السياب على اشدها وكانت مواقفه تزداد تطرفاً، فضلاً عن موقف مجازر الإنقلابيين الغير إنسانية قد زادت من حجم الكارثة والخلافات، واستنتج مما مر به السياب أنه لم يكن بريئاً، كما لم تكن الجهة المقابلة التي ناصبها العداء اقل عدوانية.