الحاج أمين على ظهر دبابة إسرائيلية.. ومن يطالب أهل غزة بالصمود!
لا نعرف إن بقي هناك أثرٌ ما في مدينة غزة لشارع الحاج أمين الحسيني (1895- 1974)، مفتي القدس ورئيس حكومة عموم فلسطين، ذلك أن اللافتة التي سرقها جيش الاحتلال الإسرائيلي وثبّتها على واجهة إحدى دباباته، بحسب صور وزَّعتْها وكالة رويترز، تشي بأن الجيش لم يرحم حتى لافتة طرقية، ومن باب أولى، بحسب تقاليد «الجيش الذي لا يقهر»، المذعور من خياله، كما أظهرت الحرب الأخيرة، أن لا يترك حجراً على حجر.
الجيش الإسرائيلي أراد أن يقول إن الدبابة الآن هي العنوان، وإنه بات بالإمكان القول: «شارع الحاج أمين سابقاً، الدبابة الإسرائيلية حالياً»
انتزع اللافتة، كما لو أنه يقول، على غرار جندي في جيش نظام بشار الأسد عندما مسحوا حي بابا عمرو الحمصي: «بابا عمرو سابقاً». وهنا فإن الجيش الأسطوري أراد أن يقول إن الدبابة الآن هي العنوان، وبات بالإمكان القول: «شارع الحاج أمين سابقاً، الدبابة الإسرائيلية حالياً».
لم تُلْقَ لافتة «شارع الحاج أمين الحسيني» جزافاً أو بشكل اعتباطي على ظهر دبابة إلى جانب أغراض أخرى، أبداً، لقد ثُبّتت بعناية على مقدمة الدبابة، أريد لها أن تُقرأ، أن تكون ملحوظة، وربما أن تجتذب عين المصور.
في مستوى القراءة الأول، لا بد أن جندي الدبابة قرر أن يعلن انتصاره على شارع، على حياة، ولا بد أنه يعرف، حتى من دون العودة إلى ويكيبيديا، أن الاسم الذي يحمله الشارع يعني شيئاً رمزياً للفلسطينيين. ومن أجل رسالة موجهة أكثر لن يصعب على الجندي اكتشاف من يكون الرجل المقدسي المولد، ورئيس حكومة عموم فلسطين، اسمه الألصق بكتب التاريخ. اسمان (القدس، وفلسطين) لا بدّ سيغيظان حمائمهم قبل الصقور.
في ما نقرأه يومياً لتعليقات محللي وجنرالات إسرائيل سنجد أن البحث الإسرائيلي جار وحثيث عن صورة انتصار يجري تقديمها للإسرائيليين، الذين يعيشون حالة انشقاق تاريخية فريدة، قبل الحرب، وعلى ما يبدو فإن الحرب عادت وفجّرت الانشقاق بعد أن بدا أن هجوم السابع من أكتوبر وحّدهم على هدف. يحاول جنودهم البحث عن صورة انتصار، بتنا نسمع يومياً عبارة أن المقاومين لم يظهروا رافعين الأعلام البيضاء. لذلك لا بد من التعويض بالاستقواء والتوحش على قبضة المقاومة في أحد ميادين غزة، أو رفع العلم على طريقة أفلام هوليوود، وصولاً إلى إذلال أسرى فلسطينيين مدنيين عُرضوا عراة على شاشات التلفزيون في جريمة حرب صريحة، لم تنته ردود الفعل عليها حتى الآن.
«سنزرع فلفلاً في خوذة الجندي»، يقول محمود درويش، في محاولة لترويض الوحش الإسرائيلي، لكن الجندي يأبى: سنزرع الدبابة بلافتات الشوارع، وسنملأ الشوارع بالدم
«سنزرع فلفلاً في خوذة الجندي»، يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، في محاولة لترويض الوحش الإسرائيلي، لكن الجندي يأبى: سنزرع الدبابة بلافتات الشوارع، وسنملأ الشوارع بالدم، سنمسح، ونحوّل أحياءكم، وأحباءكم، إلى أشلاء.
وصلت رسالتكم، إلى أرجاء العالم كلّه قبل أن تصلنا، ونحن بدورنا سنحتفظ بالصور بأمانة، فهنالك متحف للكراهية قيد التأسيس.
شيء عن الصمود
لا أعرف أحداً يطالب الغزيين بالصمود، أولئك الذين نراهم بأم العين خارجين من تحت الأنقاض، بوجوه وأطراف مدماة، باحثين عن أحبائهم الباقين، مسعفين الناجين منهم على حمير منهكة، بصور أسطورية لا يمكن مشاهدتها في أي حرب أخرى سوى حرب إسرائيل، متجهين أبداً إلى الجنوب، برايات بيضاء أحياناً، وأنفاس مقطوعة.. من له قلب أن يطالب هؤلاء بالصمود!
مثير للاشمئزاز حقاً ذلك التهكم على من يتضامن مع الغزيين. المتهكمون يعتبرون أن مجرد التضامن نوعاً من إكراه الغزيين على الصمود، نوعاً من حشرهم وإجبارهم في خيار وحيد. من قال إن رفع كوفية فلسطينية في عاصمة أوروبية يعني مطالبة أطفال غزة بأي شيء! لن تجد حتى من يطالب المقاومين أنفسهم، في أنفاقهم الأسطورية، بالصمود، وعلى أي حال إنهم يتكفّلون جيداً بالمهمة التي اختاروها لأنفسهم.
ليست الكوفية في مدينة أوروبية بلا ثمن، ثمة أثمان دفعت بالفعل، الكثيرون طردوا من وظائفهم، وحوربوا بلقمة عيشهم، أو هم مهددون في بلاد تتفاقم فيها القيود وكتم الحريات
يخرج الناس في عواصم أوروبا من أجل وقف إطلاق النار، من أجل ردع إسرائيل عن جرائمها، ولا تخاف إسرائيل اليوم، كما الولايات المتحدة، أو تحسب حساباً، إلا لتصاعد نبرة الشارع في كل مكان، هذا الذي يسخر منه معارض سوري (ويا للمفارقة! إنه ذاك الذي ذاق ويذوق العذاب نفسه منذ عشر سنوات) عندما يشير إلى سهولة التضامن بـ «كوفية ونظارة شمسية»!
وبالمناسبة، هذه المرة خصوصاً ليست الكوفية في مدينة أوروبية بلا ثمن، ثمة أثمان دفعت بالفعل، الكثيرون طردوا من وظائفهم، وحوربوا بلقمة عيشهم، أو هم مهددون في بلاد تتفاقم فيها القيود وكتم الحريات.
لا أحد يطالب الغزيين بالصمود. يخرج الناس من بيوتهم بأعلام وكوفيات وهتافات متحدّين شرطة القمع، معتقدين أنه من دون ذلك لن يكون سوى الأسوأ. فاتَهم أن يحسبوا حساب مجابهة المتهكّمين، أولئك الذين، باسم حرصهم على أهل غزة، يريدون للمتضامنين أن ينزلوا أعلامهم وكوفياتهم.. ونظاراتهم.