مفهوم التاريخ (1-2)
نبيل عبد الأمير الربيعي
التاريخ هو: ((الوعاء الذي يحتوي على كل مظاهر الوجود الإنساني. فوجود كل شيء تاريخ. والتاريخ هو وجود الأشياء جميعاً، فمن غير الممكن التحدث عن الإنسان دون تاريخهُ، كذلك نفس الشيء قوله عن الطبيعة والوجود. فضلاً عن اهمية كيفية قراءة التاريخ، ومن الممكن تطبيقها على اوضاع العراق الحالية، أي كل باحث ملزم بقراءة التاريخ وتحليله والنظر فيه. والتاريخ نسبي، والأحداث حقائق ووقائع وتراكم وعي الذات. وحقيقة التاريخ هي تراكم وعي الذات، وهي إنتاج ثقافي ومنظومة فكرية حية، والرؤية الفلسفية للتاريخ تعكس في ملامحها العامة والخاصة الرؤية الثقافية.
والصيغة المثلى للنظر إلى التاريخ من خلال التجارب المتنوعة التي تتوقف آفاق تطورها على كيفية حل الاشكاليات الواقعية الكبرى التي تواجه الدولة والمجتمع والثقافي، فالتاريخ لا يعرف قوانين حتمية وإنما هو تجارب وبحث عن البدائل، مثال ذلك: لم تكن ثورة تموز 1958م حتمية تاريخية أو ضرورة كما يضعها بعض الكتّاب ذات الميول الايديولوجية الماركسية، فكل ما حدث لهُ اسبابه ومقدماته، لأن فكرة الحتمية والضرورة تصبح أكثر اشكالاً في الحياة السياسية، لأن الحتمية في الحياة السياسية جزء من الاحتمال. فما حدث يوم 14 تموز 1958 بدايته انقلاب عسكري قام به مجموعة من الضباط الحرار ثم تحول لاحقاً بعد ألتفاف الجماهير حوله إلى ثورة، فتدّخل الجيش المباشر هو انقلاب على شؤون الحياة السياسية والمدنية، وهو مؤشر لضعف الدولة والنُخب السياسية، مما جعل من العسكريين الذي قادهم الزعيم عبد الكريم قاسم مغامرة لتغيير الحكم الملكي، ثم جرى بعدها سلسلة من الانقلابات وانعدام الاستقرار الأمني، واحتقار القانون من خلال تسخيره كمآربهم الضيقة.
مع العلم أن ثورة 14 تموز 1958 هي فعل تاريخي كبير، لكن تدخل الجيش في حياة الدولة والمجتمع فتح الأبواب لصعود التيارات السياسية الغير قادرة على قيادة الدولة، كما كانت أقرب إلى قوة الطوفان العارم في الذاكرة العراقية. ثم تبعتها احداث أخرى منها انقلاب 8 شباط 1963، وهو استمرار لانقلابات عسكرية أخرى، فتحت الطريق أمام المغامرة لسهولة استلام السلطة، واشتراك الحثالة الاجتماعية في الانقلاب وجعل الدولة تابعة لتلك الحثالة، بحيث تحولت الدولة إلى اضعف شيء، وجعلت هذه الحثالة من السلطة الشيء الوحيد المطلوب والمرغوب ليتمتع بالسلطة وقتل المنافسين، مما ساهمت هذه الفئة بالخروج عن القانون وسحقه مع الدستور، وتحويل تاريخ العراق إلى مجرد تاريخ للجريمة والتخريب، ثم تبعها انقلاب 17 تموز 1968، لتصنع معايير لرؤية الانحلال الاجتماعي وقتل الروح الوطنية، وتبعها الانحطاط الثقافي العام والتخلف السياسي بسبب تفسح الدولة، وجعلت من السلطة الشيء المقدس وعسكرة الثقافة والمجتمع، ثم انتعشت الطائفية كانتعاش الطاعون، لتعود إلى صانها الرئيسي الدولة الأموية بوصفها سنّة للسلطة وقانون يحكم سلوكها، فالطائفية بدايتها ذات ابعاد سياسية، وهي ظاهرة مصطنعة رغم تاريخها العريق، والطائفية الاداة التي تقتل فكرة المواطنة والعدالة والمساواة وتتعارض مع العقل النقدي والروح الإنساني واستعادة للانغلاق والأذية الأولى.
إن اشكالية كتابة التاريخ هي اشكالية التاريخ نفسه، فالتاريخ تراكم يتحول بالضرورة إلى مؤسسات وتقاليد ومبادئ ضابطة للسلوك الفردي والاجتماعي، امثال ذلك: المبادئ والقيَّم والأعراف والتقاليد المغروسة في الوعي والمؤسسات. أما فكرة إعادة كتابة التاريخ فتلك جريمة لا تغتفر، أي بمعنى نقف أمام محاولة جديدة لقطع ما لا يعجبنا لرميه في مزبلة التاريخ، أو كتابة التاريخ وفق الايديولوجية والخطاب السياسي لقلب الأمور كلها رأساً على عقب لنجعل من التاريخ ارجوحة تعلو وتهبط وفق امزجة أزلام السلطة. ومهمة المؤرخين التعامل مع الماضي والحاضر بمعايير موضوعية وفق الانتماء الثقافي لنجعل من الماضي مصدراً مهماً لوعي الذات.