مفهوم التاريخ (2–2)
نبيل عبد الأمير الربيعي
إن حقيقة التاريخ تراكم وسريان للأحداث والوقائع، أحدهما يكمل الآخر في مجرى تعمق وتوسع وعي الذات التاريخي. فالحقيقة التي سبقت ثورة تموز 1958م هي حقبة بناء تراكم العقلية في مجال الحياة والابداع الثقافي والأدبي، وظهور شخصيات لكبار بدون توظيف حزبي. لذلك نقف أمام تجزؤ للتاريخ العراقي. فقد كان لتتويج الملك فيصل الأول المستورد بحد ذاته دليلاً على ضعف سياسي، وهي اقرب إلى البضاعة الجاهزة والتي اعطت لها الموافقة العراقية.
كذلك لو سلطنا الضوء على ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، ونتأمل مقدماتها وقواها وبرامجها، فإنها أقرب إلى الانتفاضة لا الثورة، أما ثمار التضحيات فقد تجسدت كما ذكرت باستيراد حكومة صعدت عرش العراق.
نجد الكثير من المؤرخين والباحثين يدعون إلى الحيادية والتجرد بصورة تامة عن الايديولوجية التي يعتنقها المؤرخ أو الباحث. وهي دعوة ايجابية لأنها تعيد كتابته بتجرد عن التدخلات الحزبية التي ترغب بكتابته كما تريد، أو كما تستجيب لأهوائها السياسية والحزبية، لذلك مثل هكذا توثيق للتاريخ هو اقرب ما يكون إلى التأويل، والابتعاد عن الرؤية العلمية والموضوعية في كتابة التاريخ.
فكتابة التاريخ برأي (تحتاج إلى تأهيل علمي رفيع واحتراف مهني، ونزاهة، والعمل بالمعايير المستقلة. فالجهل بالتاريخ لا ينتج غير التخلف والانحطاط، وهو دليل على فقدان العقل النقدي والرؤية المستقبلية. وحقيقة التاريخ تراكم معقول ومتغلغل في الوحدة الروحية للأمم والثقافة، وإعادة كتابته العقلية هي نفعية ونفعية للقيَّم المعاصرة. لكن كتابة التاريخ يفترض كتابته بمعايير المنهجية والموضوعية والوطنية والمستقبلية، بمعنى إمكانية كتابة تاريخ علمي حي برؤية مستقبلية، لذلك نجد من الصعب أن يصل المؤرخون جميعاً إلى صيغة موحدة في كتابة التاريخ، إلا أن الاختلاف والتنوع طبيعي ومحكوم بالقابلية والكفاءة والاحتراف. بعبارة أخرى: إن الاسلوب الأمثل لكتابة التاريخ هو صناعته استناداً للفكرة الوطنية العامة أو الهوية الوطنية).
كما يرى صاحب موضوع الدراسة في التاريخ (وسيلة فاعلة للحد من اعتبار أن الماضي زمنٍ مات، بل هو الذاكرة التي نحيا بها وتقود سلوكنا وسلوك الأفراد والجماعات في صناعة حاضرهم. والتاريخ يقدم لنا مادة تمتد إلا آلاف السنين، كي تعيد أمام عيننا انتاج شخصيات ماتت مادياً لكنها ما زالت حية من خلال نتاجاتهم، وهذا ما يؤكده الدكتور فالح مهدي في كتابه (تاريخ الخوف) حين يذكر أن “من يقرأ كلكامش يشاركه لوعته بفقدان صديقه انكيدو، ومن يقرأ الإلياذة يحس بما عاناه يوليسوس في رحلته تلك. ومن يقرأ محنة علي بن أبي طالب، يجد نفسه متعاطفاً معهُ. التاريخ لوحده يكفي لإعطاء صورة عن ذلك الذي جرى، إن اسطرت ذلك الحدث أفقده الكثير من مصداقيته. بل حتى عندما نقرأ شكسبير، نتعاطف مع الملك لير في مواجهة دونية ابنتيه. بل نتذكر فعل الليدي ماكبث عندما وجد ضميرها نقطة ضوء ممعنة في الصغر لينطلق منه. تلك الأحداث وتلك الشخصيات حفظها لنا التاريخ وأصبح بعضها جزءاً من ثقافتنا”(1). فالتاريخ يتعلق بمعرفة ماضي الإنسانية والبحث عن إعادة بنائه. لذا “فنحن عبارة عن ذاكرة حيث نحيا اليوم أربعة مليارات من اللحظات عبر الذاكرة الحية لماضينا بما فيه من ظلمات وإشراقات، تلك الذاكرة تؤدي بنا حسب ثقافتنا وتربيتنا إلى تذكر إنسانية كلكامش، وعمق التوحيد، وألمعية المعتزلة، وإشراق الحلاج، كما أنها تؤدي بالبعض منا إلى تمجيد أكاذيب صنعت على شكل ايديولوجيات”(2). واعتبار بعض الظلمة والمجرمين والطغاة نموذجاً للحكام الصالحين الأتقياء.
المصادر
1- فالح مهدي، تاريخ الخوف.. نقد المشاعر في الحيز الدائري، مصر، بيت الياسمين للنشر والتوزيع، ط1، 2020، ص50.
2- المصدر نفسه، ص51.