تكريت العراقية قلعة دجلة العريقة
تكريت مدينة عراقية يمتد تاريخها عميقا حتى يصل عصر فجر الحضارات في وادي الرافدين، وهي اليوم مدينة عصرية ومركز محافظة صلاح الدين. تقع على الضفة اليسرى لنهر دجلة على بعد 180 كيلومتراً شمال مدينة بغداد، و330 كيلومتراً جنوب الموصل. وهي تميل بحافة شديدة الانحدار على نهر دجلة، يتراوح ارتفاعها بين 45 – 50 مترا تقريباً. كان عدد سكان تكريت حوالي 250 ألف نسمة حسب إحصاء الحكومة المحلية عام 2014 بينهم 52 في المئة يعيشون في المدن والضواحي شبه المدينية في قضاء تكريت، بينما يعيش 48 في المئة من السكان في القرى المحيطة بالمدينة.
وتعتبر محافظة صلاح الدين إحدى أعلى المحافظات العراقية في الكثافة السكانية، حيث يفوق عدد سكانها مليون وصف مليون نسمة. ويقسم قضاء تكريت إلى ناحيتين، ناحية تكريت وناحية العلم، وأغلب سكانها هم من عشيرة التكارتة، ويعيش معهم في المدينة سكان من عشائر أخرى مثل العبيد، والجبور، والدليم، ويعتمد معظم سكان البلدة على التجارة والوظائف الحكومية. أما سكان ناحية العلم فمعظمهم من عشيرة الجبور ويعتمدون أساسًا على الزراعة والوظائف الحكومية.
وحسب تقرير تنمية المدينة الصادر عن الهيئات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة فإن المدينة تضم أحد أكبر احتياطيات النفط والغاز القابلة للاستثمار في العراق، ويرتبط معظم اقتصادها المحلي بسلاسل القيمة الخاصة بمعالجة وتكرير مشتقات النفط. كما تمثل المدينة عقدة رئيسية للسكك الحديدية والطرق السريعة الرابطة بين العاصمة بغداد ومدن جنوب العراق من ناحية ومدن وسط وغرب العراق وإقليم كردستان من ناحية أخرى، ولذلك فإن 20 في المئة من ناتجها المحلي الاجمالي يأتي من النقل أو الشحن التجاري. ويوجد في تكريت أحد أكبر الجامعات العراقية وهي جامعة تكريت التي تأسست عام 1987 وتستقبل اليوم أكثر من 16000 طالب وطالبة في 18 كلية، ويأتي الكثير من طلاب جامعة تكريت من خارج القضاء، بيد أن وجود الجامعة لم يحسن المستوى العام للتعليم في قضاء تكريت الذي لا تزال فيه معدلات أمية عالية تبلغ 24 في المئة. بعد غزو العراق عام 2003 الذي أسقط نظام صدام حسين، ضمت جامعة تكريت مركزا لتخطيط السياسات في المناطق المتضررة من النزاع، وعملت مع وزارات وقطاعات مختلفة لتصميم أطر إعادة إعمار المدن التي تعرضت للدمار جراء الحروب التي عاشتها مدن محافظة صلاح الدين.
تاريخ الاسم والآثار الباقية
تعد تكريت من المدن العراقية التي حافظت إلى حد كبير على اسمها على الرغم من إطلاق بعض التسميات الثانوية المرحلية عليها نتيجة تأثيرات من سكنها من مختلف الأقوام، ويشير مؤخ تكريت الأبرز الأستاذ ابراهيم فاضل الناصري في كتابه «تاريخ تكريت في عصور ما قبل الإسلام» إلى أن «المدينة عرفت باسمها المعهود حاليا في فترات نشأتها الأولى وحافظت على صيغة الدلالة عليه عبر الحقب والعهود خلال الأزمنة المتتالية على التعاقب». فنلاحظ من خلال متابعة ذكرها في التاريخ الأول ان اسمها لم يتغير كثيرا حيث أن أقدم ما عرف عن الاسم وثائقيا انه كان ينطق ويكتب بالشكل المقطعي (تك ـ ري- أي- تا) ثم كان في العهد الأكدي يلفظ ويكتب بشكل متصل مع نطق الكاف بتضخيم واضح أي على شكل الجيم البدوية، وكان في الفترات البابلية والآشورية المتقدمة يجيء بشكل (تكريتا أو تكريتو) ثم جاء في أدوار آشورية بابلية متأخرة بأشكال ملحقة بها التنوين أي تكريتان أو تكريتينو. ما يدل على ان مدينة تكريت بقيت تسمى باسمها الحالي منذ أقدم العصور حتى الآن.
تسميات أخرى للمدينة
لكن بعض الباحثين أشاروا إلى تسميات أخرى للمدينة ربما كان أهمها الاسم الذي أطلق عليها في مرحلة الحكم الآشوري الحديث وهو برتو أو بيرتا، الذي يعني القلعة أو الحصن. ويذكر المستشرق كي ميلر انه: «في القرن الثاني للميلاد وضع الرومان الذين كانوا يسيطرون على المشرق خرائط للطرق التي تسلكها جيوشهم وللمحطات التي تغذي إمدادات التموين لهذه الجيوش، ولقد جاء في هذه الخرائط أسماء المدن الرئيسية ومن بينها اسم تكريت التي بدت في هذه الخرائط وفي الخرائط الأخرى اللاحقة لها في غير اسمها المتداول والمعروف، إنما جاءت تحت اسم بيولاريسا، ما يدل على ان الرومان قد أطلقوا عليها اسما يتوافق مع المفاهيم العسكرية والسياسة آنذاك.
ويرى عدد من المؤرخين والباحثين مثل انستاس ماري الكرملي، وعبد الرزاق الحسني، ولويس شيخو، وبولص هندو أن أصل اسم تكريت هو «تسمية رومانية جاءت اختصارا لأصل كلمتين لاتينيتين هما (ميونا) و(تايكردس) وتعني في اللغة العربية قلعة دجلة» لكن مؤرخ تكريت ابراهيم فاضل الناصري يرى أن هذا الرأي ضعيف جدا ومردود، وذلك لورود تسمية المدينة المذكورة حرفيا في عصر سبق عصر وجود الرومان بقرون عديدة، إذ ورد في عصر الأكديين والآشوريين والبابليين استنادا إلى النصوص المسمارية التي عثر عليها في المدينة.
كما ذكر عدد من المؤرخين العرب القدماء ممن وثقوا أخبار المدن العربية العتيقة أمر قدم مدينة تكريت ولعل أبرزهم كان المؤرخ والبلداني ابن حوقل الذي كتب أن «تكريت مدينة أزلية عتيقة، وهي قديمة البناء» كما أشار لها الرحالة ابن جبير الذي قال «وهي من المدن العتيقة المذكورة». كما ذكرها الرحالة ابن بطوطة بقوله «والمدينة عتيقة البناء».
أما الكتاب المحدثون فقد أشاروا في بحوثهم الأثرية والتاريخية إلى عراقتها وقاموا بإثبات ذلك وإظهار آراءهم هذه في كتاباتهم ومؤلفاتهم. إذ ذكر بولص بهنام في مقال له عن مدينة تكريت في مجلة «المشرق» السريانية؛ «أنها بنيت في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد» كما ذكرها القس سهيل قاشا بقوله؛ «أنها بنيت في حدود الألف الثالث قبل الميلاد». كذلك ذكر عبد الكريم عبد الوهاب الآلوسي، وحسين الكافلي في كتابهما «تكريت في التأريخ والأدب» أن «تكريت بنيت كرابع مدينة بعد طوفان نوح عليه السلام».
وبنى عدد من الباحثين آرائهم في أساس نشوء وتسمية المدينة اعتمادا على الموقع الجغرافي لتكريت الواقع على الحد الفاصل بين حضارات جنوب العراق الأكدية والبابلية من جهة وحضارة شمال العراق الآشورية، وبذلك تكون أهمية تكريت كقلعة حربية على خط التماس هو أساس نشأتها.
قلعة تكريت
ومن أهم الشواهد الآثارية الباقية في المدينة اليوم قلعة تكريت كونها عتيقة وحصينة واجهت العديد من النوائب والمصائب والحصارات والويلات مثلما تشرفت بالعديد من المباهج والمفاخر والانتصارات. أما تصميمها فيأخذ الشكل البيضوي ليأتي متوافقا وشكل الكتف الذي يحيط فيه نهر دجلة من جميع جهاته. أما موقعها بالنسبة لخريطة المدينة فإن معاينة الآثار وقراءة التاريخ تظهر أنها بمثابة التثليث لسور المدينة، إذ تقع في الركن الشرقي له وهذه الطريقة في التصميم كانت معروفة في الفن المعماري الحربي للآشوريين وتسمى بتصميم المدينة القلعة. وفي الواقع لم يتبق شيء مهم وبارز على سطح الأرض من هذه القلعة سوى بعض الجدر والأسس، ولعل أهمها جدار بوابتها من جهة الجنوب الغربي والمسمى محليا بعش اللقلق، وجزء من أساسها الحجري في ركنها الجنوبي.
أما صرح الأربعين فيذكر الدكتور عبد العزيز حميد في مقاله، عمارة الأربعين في تكريت، المنشور في مجلة «سومر» مجلد 21؛ «إنه أثر معماري طاهر وعتيق، شامخ القبة مميز الطرز مبارك الرحبة. اشتهر بتسمية مزار (الأربعين ولي) وذاع عنه بين الناس إنه مثوى أربعين شهيدا من شهداء الفتح الإسلامي لتكريت. كما وتواتر لديهم أنه يحتضن رفات صحابي جليل اسمه عمرو بن جندب، مولى الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وأنه مقرئ جيش الفتح الإسلامي لتكريت». أما في نظر المؤرخين وعلماء الآثار فالمزار هو عمارة إسلامية متقدمة النشأة، يعود قيامها إلى الربع الأخير مـن القرن الخامس الهجري وهي في خططها المعمارية ومكونها الهندسي وتجلياتها المعمارية تعكس كونها مدرسة دينية متقدمة في نشأتها على قريناتها من المدارس الإسلامية مثل المدرسة المستنصرية في بغداد.
كذلك تحوي المدينة آثار الكنيسة العتيقة، وهي من أهم الآثار الشاخصة في المدينة وتقع إلى الجنوب من قلعة تكريت على حافة الجرف المطل على نهر دجلة. وعن تاريخ عمارة هذه الكنيسة، يذكر في كتب السريان أنهـا شيدت من قبل مطران المشرق السرياني بريشوع في حوالي سنة 675 ولقد زينها بأجمل الزينات والحلل، فكانت كنيسة فاخرة ثم جعلها كاتدرائية المدينة. وبقيت على هذا الحال حتى منتصف القرن التاسع الميلادي إذ ربما تخربت بعام 1089. وقد دفن فيها المطارنة الذين جلسوا على كرسي مطرانية السريان: يوحنا الشيخ، واثناسيوس، وسرجيس، وقرياقس، وكانت أسماؤهم مكتوبة بأحرف أسطرنجيلية على قبورهم مع تأريخ رسامتهم ووفاتهم.
العنف في المدينة
ارتبطت مدينة تكريت بعدة شخصيات لعبت أدوارا مركزية في تاريخ العراق المعاصر بينهم رؤساء جمهورية ورؤساء وزراء ووزراء وضباط كبار، وربما كانت أبرز شخصية ارتبط اسمها بمدينة تكريت المعاصرة هو صدام حسين، الرئيس العراقي الأسبق، الذي تتحدر عشيرته من قرية العوجة الواقعة جنوب مدينة تكريت، لذلك شهدت المدينة حوادث عنف وصراعات دموية منذ الاجتياح الأمريكي حتى الآن، وقد سقطت المدينة بيد تنظيم الدولة «داعش» الإرهابي في حزيران/يونيو 2014 حيث ارتكب الإرهابيون أحد أبشع جرائمهم التي عرفت باسم «مجزرة سبايكر» إذ قتلوا 1700 شاب من الطلاب العسكريين في القاعدة الجوية الموجودة في المدينة في أحد قصور صدام الرئاسية المطلة على النهر، والذي اتخذه التنظيم الإرهابي مقرا لقيادته وقام بجريمته بدم بارد، ثم ألقيت جثث المغدورين في نهر دجلة ليحملها تيار النهر إلى ذويهم في مدن جنوب العراق.
جريمة سبايكر أيقظت التوترات الطائفية والعشائرية، وبقيت مدينة تكريت مسرحا لقتال شديد أرغم عددا كبيرا من سكانها على الهرب إلى المدن المجاورة في محافظات صلاح الدين وكركوك ومدن إقليم كردستان حتى تم تحرير مدينة تكريت في نيسان/أبريل 2015 على يد القوات العسكرية المشتركة من الجيش العراقي، والحشد الشعبي، والشرطة الاتحادية بدعم من طيران التحالف الدولي، لكن الوضع الأمني بقي معقدا بوجود خليط من القوات العسكرية في المدينة، ومع محاولة إعادة المهجرين إلى مدنهم تبقى مدينة تكريت تحاول النهوض مجددا من رماد المعارك التي شهدتها مثل طائر الفينيق.