النمو الحضري… بين الهجرة الريفية والتكييف في المدينة (1-3)
نبيل عبد الأمير الربيعي
يصعب فهم النمو الحضري الذي شهدته المدن العراقية بداية أربعينيات القرن الماضي، ولم تنتهي حتى الوقت الحاضر بسبب تجاهل الحكومات المتعاقبة لها ولأسبابها وعدم إيجاد الحلول المناسبة لإيقافها أو الحد منها على الأقل، دون التعرف على اسباب الهجرة والخروج الريفي. وعلى الرغم من كثرة الدراسات الإحصائية التي تناولت الهجرة الريفية إلى المدينة، إلاّ أن التحليلات النظرية ما تزال محدودة للغاية. وربما كان مفهوماً بين منطقة الطرد في الريف ومنطقة الجذب في المدينة من أشهر الأدوات التحليلية التي يستعين بها الدارس في دراسته عوامل الهجرة الريفية/ الحضرية ونتائجها. ومن الطبيعي أن تختلف العلاقة بين مناطق الطرد ومناطق الجذب؛ بين مناطق الفرات الأوسط والجنوب، والمناطق الشمالية.
ويتعين علينا الإشارة إلى هذين المفهومين (منطقة الطرد ومنطقة الجذب)، فكل العوامل تشير إلى أن منطقة الطرد هي تدفق القرويين نحو المدينة بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والخدمية التي تعاني منها القرية. أما منطقة الجذب فتشير إلى كل الظروف التي تجذب المهاجرين إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل أفضل وظروف معيشية أرقى. ومعنى ذلك أن عوامل الطرد كامنة في القرية؛ بينما عوامل الجذب مكفولة في المدينة. والتوازن بين هذين النوعين من العوامل يتوقف على اعتبارات عديدة منها:
1- مدى التفاوت الحضري بين القرية والمدينة.
2- الموقع الجغرافي للقرية.
3- نوع المواصلات التي تربط القرية بالمدينة.
4- معدل النمو الاقتصادي الحضري.
5- ظروف العمل الزراعي وحجم الملكية الزراعية.
وإذا ما ناقشنا العوامل الجاذبة وجدنا أن ابناء القرى ينجذبون إلى المدينة، لأنهم يعتقدون أنها تتيح لهم فرصاً للحياة، وإن نسباً من الشباب يهاجرون إلى المدينة لغرض الدراسة في الجامعات والمعاهد العليا، لكنهم سرعان ما يؤثرون في الوسط المدني بنقل عاداتهم وتقاليدهم، أو التأثر وكسب الثقافة الحضرية والإقامة في المدينة، فضلاً عن ترك القرية بعد تخرجهم والسعي إلى الحصول على وظائف أفضل، ويشكل هؤلاء نسبة عالية، ويمكن تفسير ذلك على ضوء معدلات الدخل في المدينة إذا ما قورنت بالقرية.
ونلاحظ أن نمواً كبيراً في اعداد المهاجرين خلال العقود الأخيرة الماضية وانتشار الأحياء العشوائية في اطراف المدن منها (أحياء الصفيح) التي انتشرت فيها الجريمة بعدة اشكال. وعلى الرغم من القيود التي كانت تفرضها الحكومات السابقة على الهجرة إلى المدينة وتغيير مهنة المهاجر من الفلاحة إلى العمالة، نظراً لاعتبارات اثنولوجية وسكانية وسياسية.
وقد زادت الهجرة الريفية إلى بغداد العاصمة وعلى الأخص من مناطق الفرات الأوسط والمناطق الجنوبية، بسبب العامل الاقتصادي وسيطرة الاقطاع على مساحات شاسعة من الأراضي؛ واتخاذ الفلاح كقنّ للعمل في الحقل؛ تعتبر من أهم العوامل المحركة للهجرة إلى بغداد واتخاذ منطقة الشاكرية مقراً لتجمعاتهم السكانية. وقد تركت ولا زالت، موجات الهجرة هذه على مدى العقود الماضية آثارها على الوجه الحضاري الجديد لمدينة بغداد، المدينة التي كانت قد بدأت تنهض ثقافياً وعلمياً وفكرياً واقتصادياً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1939/1945م، وتركت هذه الهجرة آثارها أكثر ما أثارت على الحياة الاجتماعية لسكان المدينة؛ وطابعها المدني بما حملته معها من ريف الجنوب من عقائد وتقاليد ومفاهيم وعادات وقيَّم وأعراف عشائرية.
لقد أوضح الدكتور مكي عزيز في كتابه (جغرافية السكان): (إن الدخل الشهري الذي يحصل عليه المهاجر إلى بغداد بغض النظر عن مستوى تدريبه ومهارته، يكاد يعادل الدخل السنوي الذي يحصل عليه القروي الذي يعمل في قرية عراقية جنوبية. ففي بغداد يستطيع المهاجر أن يحصل على عملٍ ملائم، مما يمكنه من التحرر من كبار ملاّك الأراضي الزراعية والمرابين). وفضلاً عن ذلك سجلت هذه الدراسة أن المهاجرين إلى بغداد يحصلون على فرص تعليمية ورعاية طبية لم يكونوا يحصلون عليها في قراهم الأصلية، وأنهم قد قبلوا تماماً الحياة الحضرية، حتى أنهم لا يرضون عنها بديلاً.